من الصعب أن يكون المرء صورة دقيقة استنادا إلى الصور المؤثرة للاجئين والمهاجرين الذين تدفقوا بأعداد هائلة إلى أوروبا في الأسابيع الأخيرة بالقوارب والقطارات وسيرا على الأقدام. من هؤلاء؟ ولماذا يفرون من موطنهم بأعداد متزايدة على ما يبدو؟ ولماذا الآن؟ وما الذي تغير؟
تحاول أوروبا جاهدة أن تتفق على رد متسق إزاء تدفق هؤلاء اللاجئين مع الأخذ في الاعتبار القدرات المتفاوتة والتوجهات السياسية لدولها الثمانية والعشرين، والتي تتراوح بين البراغماتية الرحيمة للمستشارة الألمانية انغيلا ميركل والشعبوية الغاضبة لرئيس الوزراء المجري فيكتور اوربان.
يفر هؤلاء اللاجئون والمهاجرون من صراعات وأزمات عديدة، لكن القوة الدافعة الرئيسية على ما يبدو هي الحرب الأهلية في سوريا، التي دخلت بالفعل عامها الخامس.
يرى كثيرون أن هذه الحركة المتزايدة للفرار من سوريا تشير على ما يبدو إلى أنه في ظل عدم وجود نهاية في الأفق لهذه الحرب، فإن هؤلاء الفارين فقدوا الأمل في سوريا، فالبلد الذي يعرفونه لم يعد موجودا، ولا أمل لعودتها إلى عهدها السابق.
الأزمة السورية لها العديد من التشعبات، وأصبحت سوريا دولة فاشلة بالفعل، وليس من الواضح إذا كانت ستظل دولة واحدة ذات سيادة أم لا.
وبدأت التركيبة السكانية للدول المحيطة تتغير بشكل كبير، إذ أن السوريين أصبحوا يشكلون حاليا 25 في المئة من سكان لبنان، و10 في المئة من سكان الأردن.
وفي هذا الإطار، فإن الأمريكيين لا يزالون منخرطين في جدل سياسي بشأن الإجراءات التي يجب عليهم اتخاذها إزاء 11 مليون شخص غير مسجلين، وهؤلاء تجاوزت أعدادهم الآن ثلاثة أو أربعة أضعاف.
خلقت هذه الأزمة إحساسا بضرورة التحرك الملح للتوصل لحل للصراع السوري، وهو ما يأتي على هوى الرئيس الروسي فلاديمير بوتن.
الرئيس بوتن كان منشغلا خلال الأسابيع العديدة الماضية في إجراء مناقشات مع مجموعة من الزعماء الإقليميين ودعوة ممثلين للعديد من الأطراف المتحاربة في سوريا للقدوم إلى موسكو لإجراء محادثات. أفادت تقارير بأن الرئيس بوتن سيستغل كلمته المقبلة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 28 سبتمبر/أيلول في نيويورك، وهو أول ظهور له في الجمعية منذ عقد من الزمن، للدعوة إلى توسيع التعاون الدولي بشأن الأزمة السورية.
بالطبع ليس من باب السخرية البسيطة أيضا أنه بالإضافة إلى الرئيس السوري بشار الأسد، يتحمل بوتن مسؤولية كبيرة عن تفاقم الأوضاع المأساوية في سوريا ومقتل الآلاف وتشريد الملايين.
لم يكن الرئيس السوري ليبقى على سدة الحكم في سوريا على الإطلاق لولا مساعدة روسيا.
تمثل سوريا آخر معقل نفوذ رئيسي لروسيا في منطقة الشرق الأوشط، وموقع سوريا الاستراتيجي يمكن روسيا من إبراز نفوذها في منطقة البحر المتوسط.
زاد بوتن مؤخرا على ما يبدو من الوجود العسكري لروسيا في سوريا وكذلك دعمها لحكومة الأسد بمزيد من الأفراد والطائرات والمروحيات والمعدات بعد أن خسر الجيش السوري أراض وضعفت همته في أرض المعركة.
وأثارت التحركات الروسية انتباه إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، وأجريت اتصالات مكثفة مؤخرا بين موسكو وواشنطن لاستيضاح نوايا وأهداف روسيا، ومن بينها أول اتصال بين وزيري دفاع البلدين منذ أكثر من عام.
يتطلب تزايد الوجود الروسي في سوريا من البلدين وضع إجراءات للتأكد من أنه لن يكون على خط التصادم مع الحملة الجوية العسكرية التي تقودها الولايات المتحدة ضد تنظيم الدولة الإسلامية.
وأكد وزير الخارجية الأمريكي جون كيري في لندن أن استئناف الاتصالات مع الجانب الروسي يهدف أيضا إلى البحث عن “أرضية مشتركة” في الوقت الذي يدرس فيه المجتمع الدولي خطواته المقبلة بشأن الوضع في سوريا.القاسم المشترك الوحيد هو رغبة الجميع في هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية، وربما سيسعى الرئيس بوتن لطرح فكرة تشكيل تحالف كبير يضم إيران لتحقيق هذا الهدف.
لكن واشنطن وموسكو ودول المنطقة تتبنى تفسيرات مختلفة بشكل كبير بشأن أسباب هذه الأزمة وكيفية تسويتها.
ترى إدارة أوباما أن الأسد هو العنصر الرئيسي في هذا الصراع، ودعت منذ عام 2011 إلى تنحيه عن السلطة، وأن الحرب لن تنتهي حتى يرحل.
لكن الرئيس بوتن يصف معارضي الأسد بالإرهابيين ويرى أنه يأتي في طليعة الحرب ضد التطرف في المنطقة. ويقول الرئيس الروسي إن اللاجئين السوريين يفرون من تنظيم الدولة، رغم أن معظم منظمات حقوق الإنسان تشير إلى أن ذلك يعزا أيضا إلى الهجمات التي تشنها قوات الأسد من بينها استخدام البراميل المتفجرة باستخدام غاز الكلور.
يرى كثيرون في المنطقة أن سوريا تمثل توسعا لطموحات إيران للهيمنة على المنطقة، ولا يرى أي من أعضاء التحالف الدولي الحالي باستثناء العراق أن إيران دولة حليفة.
ومن الصعب التوصل لرؤية بشأن كيفية تسوية هذه الخلافات.بوتن ليس المخطط الرئيسي كما يزعم مرارا، لكنه يرى أن الأوضاع الحالية تمثل فرصة للتحرك بشكل حاسم لشغل مركز الصدارة والتأثير على الأحداث مستقبلا.
قبل عامين، ساعد بوتن الرئيس أوباما على إنقاذ انتصار دبلوماسي أدى إلى التخلص من مخزون سوريا من الأسلحة الكيماوية بعد أن تجاوزت الحكومة السورية ما اعتبرته واشنطن “خطا أحمر” بسبب استخدامها هذه الأسلحة في الحرب الأهلية، وأعاقت هذه المبادرة الروسية تصويتا للكونغرس بشأن استخدام القوة العسكرية والذي كان من المرجح بشكل كبير أن يخسره أوباما.
كان الرئيس بوتن مستعدا للمساعدة، وهو يريد الآن أن يكون موجودا في المعادلة في الوقت الذي يحاول فيه القادة الأوروبيون تسوية خلافاتهم بشأن معالجة أزمة اللاجئين وتداعياتها السياسية.
هل توجد صفقة كبيرة مطروحة الآن بشأن سوريا؟ على الأرجح لا، على الأقل حتى يكون لدى بوتن الاستعداد للتخلي عن الأسد، لكن التحركات العسكرية الأخيرة لروسيا تشير إلى عكس ذلك.
لكن الوضع الحالي يعيد بوتن مرة أخرى إلى قواعد اللعبة، وسيمكنه من استخدام أزمة اللاجئين للبدء في خروج موسكو من عزلتها جراء الأزمة في أوكرانيا.
أحد التفسيرات المفضلة لرؤية واشنطن في تعاملها في القضايا المختلفة هي حتمية الدور الأمريكي الذي لا غنى عنه، لكن حينما يتعلق الأمر بالمأساة في سوريا، فإن بوتن يؤكد بوضوح أن الطريق لحل نهائي يجب أن يمر عبر موسكو.