بقلم: زينة محمد الجانودي
قبول الآخر المقصود به التعايش والتّعامل مع الآخر المختلف واحترامه، وقبول هذا الاختلاف سواء كان بالرأي أو غيره، وعدم إقصائه وإلغائه، فالآخر هو الغير إن قَرُبَ كالأب والأمّ والأخ والابن والابنة والزّوج والزّوجة والجار أو ابن البلد…
أو بَعُدَ كالأخ في الدّين، والأخ في الإنسانيّة والخُلقة الواحدة…
لقد خلق الله تعالى البشر مختلفين، أي على أساس التعدّديّة، لكنّه أوجد بين المختلفين مناطق تقارب والتقاء، وهيّأ لهم، القيام بمهمّة الخلافة في الأرض، التي تندرج فيها نشاطاتهم وعلاقاتهم مع غيرهم، مهما تعدّدت وتباينت مظاهر وأهداف هذه النّشاطات والعلاقات.
وقضيّة قبول الآخر هي قضيّة عميقة إنسانيّة اجتماعيّة تدخل كلّ بيت، وهي قضيّة كونيّة فمن يتفرّد بالرأي ولا يقبل الآخر، لا يستطيع أن يفهم الحياة، وهي أيضا قضيّة دينيّة نادتْ بها كلّ الأديان السّماويّة، وهي قضيّة إسلاميّة لا غنى لأيّ مسلم عنها.
وقد أقام الإسلام العلاقة مع الآخر، على مبدأ بغاية الأهميّة وهو الكرامة الإنسانيّة التي من أهمّ قواعدها السّلوكيّة احترام الآخر وعدم تصنيفه ورفضه بسبب اللّون أوالعرق أوالجنس أواللّغة أوالثّقافة أوالدّين، وأسّس لقبول الآخر تأسيسا علميّا وواقعيّا،
وذلك عندما رفض كل أشكال العنصريّة، فإقامة الحقّ والعدل بين النّاس جميعا، بغضّ النّظر عن معتقداتهم ومايدينون به، هو هدف أساسيّ من أهداف الإسلام، فبالحقّ قامت السّماوات والأرض، {وخلقَ اللّهُ السّماواتِ والأرضَ بالحقِّ} [ الجاثية:22].
ولذلك أمر الله تعالى المسلمين، أن يعاملوا النّاس جميعا من دون استثناء أو تمييز، بالإنصاف والعدل، { يا أيّها الذين آمنوا كونوا قوّامينَ بالقسْطِ شُهداءَ للّهِ ولوْ على أنفسكُمْ أوِ الوالديْنِ والأقربينَ إن يكُنْ غنيًّا أوْ فقيرًا فالّلهُ أوْلى بهِما فلا تتّبعوا الهوى أن تعدلوا} [النّساء :135].
فالتّعايش أو قبول الآخر معناه الاحترام المتبادل والمعاملة بالعدل والإنصاف، دون الحاجة إلى الذّوبان في الآخر وإلغاء الذّات أو الهويّة أو الثّقافة أو الإيمان، فالذي أرسى دعائمه الإسلام، وغرسه وطبّقه النبيّ محمّد صلى اللّه عليه وسلّم وبعده أصحابه الكرام،
هو قبول الآخرين والتّعايش معهم على أساس الالتزام والمساواة بالحقوق والواجبات، والتّسامح والإحسان، فعاش غير المسلمين مع المسلمين في كنف الأمّة الإسلاميّة بأمن وأمان واستقرار، وقامتْ الحضارة الإسلاميّة وازدهرت فيها العلوم، وكانت مثالا للتعدّديّة الفكريّة والتّنوير، وذلك على مبدأ قوله تعالى:{وجَعلْناكُمْ شعوبًا وقبائلَ لِتَعارَفوا} [ الحجرات:13].
ومعنى تعارفوا، أي أن يحصل بينكم تبادل بالمنافع والأفكار والثّقافات، فهذه الآية تدلّ على أنّ التعدّديّة والاختلاف ثراء وغنى، وأنّ اختلاف المجتمعات والبشر هو إرادة اللّه، والآية واضحة بهذا الشأن في قوله تعالى: {ولوْ شاءَ ربّكَ لجعلَ النّاسَ أمّةً واحدةً} [ هود: 118]،
وكأنّ حكمة الكون الربّانيّة، هي أنّ الاختلاف هو الذي سيغني الكرة الأرضيّة، فالنّاس لن يتحوّلوا منذ أن خلق اللّه تعالى آدم إلى يوم القيامة إلى أمّة واحدة، فالأسلوب الشمولي الإكراهي،الذي يسعى إلى حمل النّاس كلهم على طريق واحد، هو مناقض لسنّة اللّه في عباده، لانّ هذا الاختلاف والتعدّديّة هو لفائدة النّاس، فبه يظهر الإبداع، فاللّه تعالى لم يجعلنا أمّة واحدة، بل جعل لكلّ منّا شرعة ومنهاجا، { لكلٍّ جعلْنا شرعةً ومنهاجًا} [ المائدة:48]، فالدّليل هنا واضح،
في القرآن على تعدّد الشّرائع والأمم.
إنّ الإسلام دعا إلى أرقى أجواء التّعايش مع الآخر، ومن يخشى ويحذّر من قبول الآخر والتعايش معه وإلغاء التعدّديّة، ويقوم باحتكار الرّأي وتقييد السّلوك، ويتذرّع بذلك بحجة الحفاظ على الوحدة والتمسّك بالشريعة،
فهذه وحدة صوريّة فارغة لا مضمون لها، فبالتعدّديّة والاختلاف يمكن الوصول إلى الوحدة، فعندما تكون التعدديّة وقبول الآخر وسيلة، تنتهي إلى الوحدة كهدف، ويقدّر لها النّجاح من القاعدة إلى القمّة.