لم تكن ريبيكا تنوي مخالفة أمر أبيها وهو يطبع قبلة بين عينيها في المساء.
كانت تنوي أن تظل قابعة في غرفتها طوال اليوم تمشط شعر عرائسها وتقرأ قصصها الجديدة.
كان اليوم صحوا، والطيور تغرد فوق شرفتها كالمعتاد تنفست عبير الصباح، وتثاءبت وهي تبتسم لصورتها في المرآة.
وبعد إفطار مقتضب، أسرعت ريبيكا إلى غرفتها وبدأت تطالع قصصها الملونة في نهم شديد.
ولكنها لم تكد تلمس غلاف القصة الثالثة حتى تناهى إلى سمعها صيحات الصغار.
كانت الشمس الحانية تفرش أشعتها المخملية في الجوار، وكانت صويحباتها تتقافزن خلف كرة ملونة في مرح طفولي مثير تعلقت عينا الصغيرة بالكرة واللاعبات، وودت لو كانت معهن.
لماذا طلب منها أبوها أن تبقى في المنزل هذا اليوم؟ آه لو علم حاجتها لقسط من المرح، وهو الذي يحبها أكثر من كل شيء!
قررت ريبيكا أن تغلق نافذة غرفتها وأن تعود إلى قصصها الملونة لكن ألوان القصص لم تعد جذابة أبدا، ولم تعد عناوينها مغرية.
أحست ريبيكا بالألم يعتصر جسدها وقلبها، وكادت أن تصرخ حين وضع أبوها يده فوق ركبتها، لكنها تمالكت أوجاعها.
“أخيرا قررت المجيء! انتظرتك طويلا يا فتاتي!” حاولت ريبيكا أن تلملم الحروف فوق شفتيها، وأن تعتذر بشيء مقنع، لكن أباها باغتها بكلماته: “أعرف ما حدث .. رأيت كل شيء.”
“لكنك لم تكن هنا،”قالت ريبيكا. “لم أذهب إلى مكتبي اليوم، لهذا طالبتك بالبقاء كي نظل معا طوال اليوم، ورأيتك حين سقطت فوق الدرج ..
سقط قلبي بين ركبتي، لكنني انتظرت حتى أرى كيف تصنعين.
” لم تكن ريبيكا مضطرة للبحث عن كلمات اعتذار لأن أباها كان يعلم أخطاءها الصغيرة، وضعفها الفطري، وعزيمتها الواهنة.
كان يعلم أن الفتن الملونة وصيحات الطفولة أكبر من إرادتها الفسيفسائية المنهكة.
يا رب .. يعلم الريبيكيون عجزهم أمام المغريات، وتقصيرهم في حقك.
ونعلم أن اللوحات التي تحطمت تحت أقدامنا الضالة لا تعد وأن الوعود التي حنثنا بها لا تحصى.
نعرف أننا عجزنا عن مقاومة المغريات، وأننا نزلنا من علياء طاعتك إلى قاع معصيتك عن سبق تعمد ونية مبيتة.
ونعلم أننا تركنا الألواح والزابور والتلمود والإنجيل والقرآن، وأننا استبدلنا الذي هو أدنى بالذي هو خير.
وتعلم أننا تثاقلنا عن حمل الأمانة، وأننا قلنا لنبيك “اذهب أنت وربك فقاتلا.
” تعلم ونعلم أننا هجرنا كتابك، وجعلناه وراءنا ظهريا، وأننا لم نرض حكمك وعدلك وشرعك، وأننا سلكنا كل درب إلا دربك، واستعنا بكل قوة إلا قوتك، وركنا إلى كل حكم إلا حكمك.
لم نفخر بالعبودية لك كما افتخر الوثنيون بوثنيتهم، ولا الضالون بضلالهم، ولا المغضوب عليهم.
سلكنا كل درب سلكوه، وشربنا من كل بئر وردوه، واحتمينا بكل جدار شيدوه، ثم سقط في أيدينا جميعا حين أريتنا بعضا من جبروتك، وحين وقف قادة العالم المتقدم عاجزين أمام حولك يعضون أصابع الندم معترفين أن “حلول الأرض قد انتهت، وأن الأمر متروك للسماء”.
نقف بين يديك اليوم، بلا علم ديني يعيدنا إلى سبيل الرشاد، وبلا علم دنيوي يمكننا من شق عصا الطاعة على من بادروك بالحرب.
نحاول أن نلملم أي حروف فوق شفاهنا الآثمة كي نقدم التماسا للعفو، ولا ندري ماذا أنت فاعل بنا ربنا لا علم لنا.
أطعنا سادتنا وكبراءنا وضعاف الرأي والعقل والبصيرة فأضلونا السبيل.
لكنك تعلم يا رب ضعف ريبيكا، وفسيفساء إرادتها الواهنة، وتعلم أن المغريات صارت أكبر همنا ومبلغ علمنا وغاية رغبتنا، لكنك تعلم أيضا أن الريبيكيون الذين يقفون ببابك يطمعون في رحمتك وإن كانوا لا يستحقونها.
وتعلم طمعهم في أنك لن ترد أياديهم الصغيرة المرفوعة في كل واد تناديك.
علمك بحال الريبيكيون يا رب يغنيك عن سؤالهم، فاغفر وارحم وأنت خير الراحمين.