أخبار عاجلةأهم الاخباراسليدرالأدب و الأدباءاهم المقالاتمقالات واراء

( الألم ) قصة قصيرة _ بقلم : جيهان حكيم

(( 1 ))

حين عدت من الجامعة

رأيت في فناء منزلنا الكبير عدداً غير قليل من الناس وأصواتٌ مختلطةٌ تملأ المكان  , أثار ذلك أستغرابي فتساءلت فى دهشة متعجبة :

 ما الأمر

ظلوا يتبادلون النظرات الصامتة فيما بينهم  , بينما هرولت الخادمة نحوي وهي تتمتم بعبارات غير مفهومة
ينتابني الخوف :

 أين أمي ؟!!

دون شعور مني درت في كل أنحاء البيت أبحث عنها لكنني لم أجدها , هَرعت مُسرِعةٌ بأتجاه غرفتها لكنها كانت مغلقة
بصوت مهتز مرتبك :

 أمي أفتحي الباب

علي غير العادة فتحت شقيقتي الباب , تبادلت معها النظرات القلقة المستفهمة
زاغت عيناها وطفرت منهما الدموع وأحتضنتني قائلة :

 ماما ماتت

(( 2 ))

الزمن يتوقف
العصافير والأشجارعلى غير العادة تنتحب
في الركن القصي من الحديقة
تئن شجرة الياسمين التي زرعتها من أجلي
تذبل الوردة وتسقط قبل الخريف
يلجمني الصراخ الذي لا يتردد صداه إلا في جوفي
تراتيل الألم تصدح في الأفق
يطغى اللون الأسود على كل شيء
فقد ماتت أمي
تسمرت في مكاني لبرهة ، ثم تزلزلت ، إنعقدت الدهشة عندى ، مددت يدي صوب أذناي أتحسسهما ، طرقت عليهما كم طرقة ، هل هما علي قيد السمع !! أم أصابهما صمم  !

(( 3 ))

لم أكن أعلم شيئاً عن فاجعات الحياة ومصائبها وعندما علمت كانت قاسية بشكل مرعب حين رأيت أمي مسجاة على حدود طاولة طويلة , مُستكينة , صامتة ، بلا أنفاس، ولا صوت محصورة بين سيدتين يغدقون عليها بماء أشبه بحبات اللؤلؤ فى بياضه , أذكي من عطرالمسك في رائحته , يدثرونها بالقرآن , ثم يعود صدى الدعاء لها بالرحمة يتردد من جديد
أرتعشت , تجمد احساسي والتحفت بالحسرة حين وجدتهم يقتربون لوضع لفافات قماش علي جسمها
أستجمعت ما تبقى بي من قوى خائرة و صحت بنبرةٍ مرتعبةٍ

  ياالهي  .. هل هذه أمي ؟! 


وكطفلة صغيرة أقتربت منها لأطبع قبلة شفافة علي  وجهها المشع بهالة مضيئة  , نظرت إلي عيناها  الواسعة الجميلة المغمضتين , وأنا أمرر كفي علي شعرها الناعم المسترسل برائحته الذكية فتتزاحم الدموع في عينى :

( ياماما .. أنا هنا )

( أستيقظى يا أمي )

( ياأمي لا تتركيني  )

( ياماما أنا أتألم )

دون مقدمات يصلني صوت احدى السيدتين قائلاً بلا مبالاة  :

أبتعدي حتى ننهي عملنا كلُنا نموت حين يَحين أجلُنَا

وضعت كفي على أذني حتى لا أسمعها لم أستطيع أحتمال ألم أكثر ,
فقد توقف قلبي أنذاك وتوقفت أنفاسي وشعرت أن الدنيا تدور بي
وفقدت أتزاني وسقطت مغيبة

(( 4 ))

كنت شاخصة ببصرى على باب المسجد وكأنى أنتظر عودة أنفاسها للأ نتظام ثانية
يخرج النعش مسرعاً كأنه في سباق فتناتبني صاعقة مباغتة خرساء من الألم  تكبلني بمزيج من رهبة وعدم تصديق ، وكأني أعيش كابوساً يقودني دون شعور لأهات تنتزع نفسي أنتزاعاً
مذعورة , مهزومة ، كسيرة, شاردة , تكسو عيني غمامة حزن ويأس معجون بالألم , كنت محصورة بين نومي وصحوي وهما يتنازعان بكُلُّ علاماتِ الأستفهامِ التي تسكنُ ملامحَي

( يَا إلهي هل هذا حلم أم حقيقة ؟ )

( إنهم يحملونها في نعش )

( لا أمى ما زالت حية لم تمت )

( لقد كفنوها وهذا يعني أنها ماتت )

( هي الحقيقة اذا ماتت أمى دون تحذير أو أشارة خفيفة )

( وأنتِ تسيرين الأن في الجنازة )

( لا لا أصدق !! )

لا زالت النظرات ترمقنى فى قلق
فقد كانوا يعلمون أنها سلاحي الذي يحرسني من شرور هذا العالم ربما دمائي المتدفقة التي أواصل من خلالها حياتي
التفّتو حولي كالإخطبوط يقبضون بأيديهم على ذراعى الأيمن والأيسر
وسط الجموع أفلت منهم بخفة
أجُرُّالخُطَى لا أعرف الي أين حتي أني تجاوزت سيارة أبي التي تقف أمام عيني دون وعي
جاء أبي من خلفي وأمسك بيدي بين يديه ووضعني في السيارة برفق
لحظتها بادرني السائق قائلاً :

البقاء لله
نظرت الي أبي مستنجدة  , ثم أنتفضت بشدة وأطلقت صرخة مرعبة

أين أمي ياأبي ؟!!

لم يجبني .. وضمني إلى صدره بقوة ، كأنه يحميني من آهاتٌ مكلومةٌ
حين أنطلقت السيارة مع طابور السيارات مُسرعاً ليلاحقها
أنطلق بداخلي بكاء من نوع آخر لم تذرفه العيون
بكاء ظل صداه يتردد في الفضاء المترامي حتى الآن

(( 5 ))

مع مشهد النهاية كان الألم قد بلغ مداه
صمتٌ جليلٌ يُهيمنُ على المقابر , إلامن أصوات ترتل القرآن
وتردد

( لا اله الا الله )

لايجرؤ أحد على الصراخ محمولين على وصاياها وتحذيراتها لنا وتأكيدها أن هذا يغضب الله
أحسست بالفزع يملأ كياني حين رأيتهم يدخلونها في نفقٍ مُظلِمٍ ويغلقون الباب بأحكام
لم أتمالك نفسى  

  ياالهي .. أنها أمي

 لا لا تغلقوا الباب دعوها تتنفس الهواء

الا تملكون شفقة أو رحمة 

أستطرد بحرقة قلب وصوت مبحوح :

يارب أريد أمي


حاول الجميع تهدئتي بلاجدوى
تلبستنى غيبوبة أخرجتنى من واقعى الى خيال مسرف
أفترشت أرض المقبرة بوجع اللوعة ممتلئ قلبي بالمرارة غير مبالية بضجيج كلامهم أوأعتراضهم ,
فقد كنت أصغر من أن أستوعب ما يعنيه الموت بذلك الوقت
ألصق أنفي وجانب  وجهي بباب القبر منغمسة في وحل من الأحزان غارقة في بئر دموع  أستعطفها :

(  أرجوكِ ياأمي أبقي معي .. أنا خائفة  )

(  بالله عليكِ .. أتوسل اليكِ  )

 ( هل هنت عليك ؟! )

أذناي تترقبان الرد
لا مجيب ولا محدث !!
بحذر يقترب أبي مني وفى أسى قال :

  قضاء الله أمر فينا ماض ياصغيرتي

عاجلته :

 ستقوم.. ستنهض الأن وتنفض عنها التراب 

ربت على كتفي بحنان. وألحق عباراتي بآية قرآنية

يا حبيبتى قولي : ( انا لله وانا اليه راجعون )

باكية :

أريد أمي .. أريد أن أموت .. !

يضمني برفق فأرتجف في أحضانه وكفيضان نهر تنهمر دموعي حتي تصل الى نهايتها   

مستسلمة
يصطحبني معه الي البيت وأنا أحمل في قلبي غصتين , غُصة موتها الذى نهش روحي وقتلنى فى صمت , وصدى صوتها الذى مازال يرن في أذني حتي اليوم
( بكرة عصفورتى تبقى احلي مذيعة )  

 

الكاتبة جيهان حكيم

كاتبة حرة وأدبية حصلت على العديد من الجوائز في القصة القصيرة ، خريجة إعلام القاهرة , نائب رئيس مجلس إدارة مجلة المجتمع سابقا ، نائب رئيس تحرير جريدة الأمة ، رئيس القسم الثقافي بصوت مصر الحرة ،كاتبة مقال الرأى بجريدة صوت الوفد ، جريدة العالم الحر ,جريدة الوتر، جريدة نبض الشارع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى