الأدب و الأدباء

الأبنودي.. الشاعر المنشد

الأديب د: صلاح عباده
الأديب د: صلاح عباده

د. صلاح عبادة
الشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودي، هو ثالث ثلاثة أدباء جنوبيين كبار،هجروا مواطنهم الأولى في محافظة قنا، نزوحا إلى القاهرة العاصمة ، بحثا عن المعرفة والتحقق الأدبي والشهرة.أما الأديبان الآخران فهما: القاص الفذ “يحيى الطاهر عبد الله”، وأمير شعراء الرفض “أمل دنقل”، رحم الله الجميع!
وقد تحقق لكل من الأدباء الثلاثة ما كان يؤمّله ويصبو إليه . حيث أصبح ” أمل دنقل “أحد رواد حركة الشعر الحر في مصر والوطن العربي ،مقترنا اسمه بأسماء :صلاح عبد الصبور ،وأحمد عبد المعطي حجازي، وبدر شاكر السياب، وعبد الوهاب البياتي، ونازك الملائكة.كما صار “أمل دنقل” من أشهر من كتبوا القصيدة السياسية الملتهبة .وأصبح “يحيى الطاهر عبد الله”،صاحب ” الطوق والإسورة”أحد رواد القصة القصيرة ، التي اتخذت من الجنوب مسرحا لأحداثها، ومن إنسان الجنوب بطلا ،ومن عالمه وأساطيره ميدانا للكشف والغوص،ولولا أن عاجل الموت “يحيى” وهو في ريعان الشباب ،إثر حادث سيارة أليم،لأضاف إلى الخطاب القصصي إضافات فارقة ،ولأعطي عطاء ضخما متميزا.
أما عبد الرحمن الأبنودي (1939-2015 ) فقد ترك منجزا شعريا ضخما باذخا كمًّا ونوعًا،تمثّل في دواوينه الشعرية :” الأرض والعيال” و”الزحمة” و” عماليات” و” جوابات حراجي القط” و”الفصول” و”أحمد سماعين” و”أنا والناس” و ” بعد التحية والسلام” و” وجوه على الشط” و ” صمت الجرس” و”المشروع والممنوع” و” الموت على الأسفلت” و”الأحزان العادية” و” الاستعمار العربي” و” المد والجزر” .وقام “الأبنودي” بجمع وتدوين “سيرة بني هلال” في خمسة أجزاء طبعت جميعا ، وهو عمل ضخم وجليل؛ وأنجز، في نفس الصدد، دراسة عن “السيرة الهلالية”،تُرجمت إلى اللغة الفرنسية عام 1978.
وقد اجتمعت، ولا تزال وستظل، ملايين القلوب والآذان والوجدانات في مصر والوطن العربي، حول قصائد “عبد الرحمن الأبنودي” التي تغنت بها أعذب الأصوات الغنائية المصرية والعربية :عبد الحليم حافظ ، ومحمد منير ، ومحمد رشدي، وشادية ، وصباح، وفايزة أحمد،ونجاة الصغيرة،ونجاح سلا ،ومحمد قنديل،ووردة الجزائرية،وعلي الحجار، وماجدة الرومي،و محمد الحلو، وميادة الحناوي….
والواقع أن المنجز الشعري للأبنودي يتمحور، بشكل أساسيّ ، حول “الصوت”بكل طاقاته السحرية ،ليس فقط أصوات المطربين الذين طارت قصائده من خلال حناجرهم إلى كافة أرجاء مصر والوطن العربي والعالم، وحتى أضيق الزوايا في الكفور والنجوع في كل ربوع مصر عبر أثير الإذاعة المصرية ؛ ليس هذا فحسب ولكني أقصد بشكل رئيس “صوت” الأبنودي نفسه ، الذي عاد بالشعر إلى ينابيعه السحرية الأولى وإلى وظيفته الأولى حيث عصور الإنشاد والإصغاء إلى الشعر من مصدره الأصيل ، الشاعر نفسه.فالأبنودي هو الشاعر الوحيد في العصر الحديث – فيما أعلم – الذي أبدع ظاهرة الدواوين الصوتية الموازية لدواوينه الشعرية المكتوبة ، وهي ظاهرة لم يسبقه إليها شاعر من قبل. هذه الدواوين المسموعة خلّدت صوته الشعري الأصيل المعبر، الذي انحفر واستقر في الوجدانات والقلوب والأسماع والذواكر إلى الأبد .
تجلت عبقرية “الأبنودي”-إذن- في اعتماده على “الصوت” باعتباره عماد عملية الإنشاد والتلقي الشعري الشفاهي . فمن خلال هذا “الصوت” تعبر الكلمة الموزونة المموسقة إلى متلقيها ،محمّلة بكل الحمولات الشعورية، ذلك، علاوة على ما يمتاز به “الصوت” من خاصية “الشمولية” ؛ فهو يخاطب جمهورا غفيرا في لحظة واحدة، ويُحدث تأثيره الشامل في اللحظة نفسها ؛ لأن النظام الصوتي ،كما يرى “والتر أونج” في كتاب ” الشفاهية والكتابية” ، ” يفضي إلى التوحيد وإلى الاتجاه نحو المركز ونحو الداخل. والنظام اللغوي الذي يسود فيه الصوت يتفق مع الميول التجميعية ( المساعدة على الائتلاف)….وهو يتفق كذلك مع النظرة الكلية المحافظة….ومع التفكير المواقفي ( المرتبط بالنظرة الكلية أيضا، حيث يكون الفعل الإنسانيّ في المركز) أكثر من اتفاقه مع التفكير المجرد .وهذا هو ، في تصوري، لب مشروع “عبد الرحمن الأبنودي” الشعري المصري والقومي والإنساني: أن تلتف الأمة حول قضاياها الكبرى، عبر شعره، الذي أصبح صوت وجدانها الموحد لكلمتها، والجامع لشملها.
لقد غنى “الأبنودي” للقدس،مهدهدا ومواسيا جراحها الناغرة، وناعيا تخاذل الجميع عنها والتقريط في شرفها، ومستحثا العزائم والهمم لنجدتها ونصرتها؛ صارخا باكيا:
يا قدس لمي جناحك وارجعي تاني
لا تصدقي قولي ولا تئتمني أحضاني
نامي في حضن العدو.هو العدو الأول
يا قدس خافي قوي من العدو التاني
*******
يا قدس قولي لحيطانك اثبتي بقوة
حيخلصك ابنك اللي مانيش هوة
لا تبحثي عن حلول..الحل من جوة
الحل من جوة..الحل من جوة!!
وكذلك غنى “الابنودي” لبغداد حين سقطت على أيدي التتار الجدد،الأمريكان .وكتب ديوان “الاستعمار العربي” مهاجما غزو العراق للكويت. وسجل أحداث ثورة 25 يناير،كواحد من أبنائها ومفجريها، في قصيدة “الميدان”..وهكذا هو “الأبنودي” دائما لا يكون إلا حيث يكون الناس ،هو مسيحهم الذي يمسح على أوجاعهم وهو “صوتهم” ، وصانع أهازيجهم عند الفرح،ومبدد همومهم عندما تتنكر السماء ويكفهر وجهها ، وهو مهمازهم عندما تتخاذل منهم الهمم وتخور العزائم،وهو قبل كل ذلك وبعده “منشدهم” الذي يتحلقون حوله ويستمعون إليه منصتين في خشوع ومحبة وإجلال..وكأنما يستمعون إلى صوت مقدس!!
وبعدُ أيها خال.. هذا بكائي عليك!!

رئيس النحرير

المشرف العام على موقع العالم الحر
زر الذهاب إلى الأعلى