عين و قلب …
قالوا: “البعيد عن العين بعيد عن القلب”
فلا أرى الحبيب إلا قريب وإن كان بعيداً وسيظل داخل العين والبال والقلب،
فَمَن منا لم يسكن بداخله هذا القريب الذي له في القلب مكانتهٌ ومن الروح نصفها،
أتكلم عمَن تعلمنا منهم ومعهم معنى الحياة فكانوا نوراً يمتد أمامنا لينير لنا الطريق،
أتكلم عمَن شاركونا كل اللحظات بحلوها ومُرها، بفرحها وحزنها،
هم من رأَوا فينا الضعف فكانت أيديهم هى التى نتكأ عليها، وهي ذات اليد التى كانت أول من تُصفق لنا فى لحظات القوة والنجاح لتدفعنا دائما للأمام،
هُم من اختارهم القدر ليكون لكل منهم دَوراً وبصمةً فى رحلة الحياة التى سنمضى فيها، فكانوا هم رفقاء الدرب، ومنهم من بدأ مشواره معنا منذ اللحظة الأولى فكانوا هُم أول من رأتهم أعيُننا وأُولى كلماتنا كانت هي أسمائهم،
تمر الأيام وتشتد الأعواد ولا يمكننا الإستغناء عن أصحاب تلك الأدوار ،
وهكذا هي حكمة الله سبحانة في خلقُه فهو يعلم بضعفنا وعدم قدرتنا على أن نحيا فُرادىَ فلا نَقوىَ إلا بوجودهم ولا نجتاز المحن إلا بمؤازرتهم،
فها هو الفارس الأول في حياة كل منا وفِي حياتي أنا كان “أبي” ومَن كأبي! فهو قدوتي ومُعلمي وحصني الذي أحتمي به وأحيا في جواره مُطمئنة البال، وها هي رحمة الدنيا وجنة الأرض “أمي الحبيبة” توأم الروح وأنيسة الفؤاد ومُلهمتي، فليس هناك ما يٌشعرني بالحنان والدلال كحضن أمى الذي يغمرنى ويحيط بي أينما ذهبت، وليس هناك أحن وأرفق بي من أختى، فهي لي كالملاك الحارس وهي أمي من بعد أمي،
ولا أجد آماناً ودفئاً كالذى استشعره فى أنفاس أخى حين يَضمُني، ويأتي الزوج ليُكمل مسيرة كل هؤلاء، ثم أبناء يصبحون قرة العين وزينة الحياة وجسرها للجنة، ولا يمكننا أن ننسى أن هناك الكثير من المميزون ممن تربطنا بهم الصلات والأرحام، ومنهم من لا تربطنا بهم سوا المواقف التي كانوا فيها خير سند، فمنهم من صار صديق العمر وشريك لأجمل الذكريات، ومنهم من إختار أن يكون من العابرين! ولكن ما تركوه من جميل أثر جعل لهم في القلب مكانة خاصة لا يملؤها غيرهم،
فكيف هم كذلك! وإن غابو عن العين خرجوا من القلب!
هم فى القلب.. وإن ذهبوا ذهبت معهم الروح وإن بقي الجسد،
ولكن حتما سيأتى موعد للفراق، وكذلك هي سنة الحياة، ولكن هناك فراق تفرضه الظروف والأقدار، وذلك حينما يسعى كل منا إلى حيث أحلامه وطموحه وحياته، وهناك أيضاً فراق حتمي، لا مفر منه ولا لقاء بَعْدِه،
فإن كنا نحن أول المفارقين، فذلك أرحم وأهون من لحظة قد تكون أشد قسوة عندما يكونوا هُم فيها المفارقون، فتلك هي الآلام التي لا يمكن أن توصف فى كلمات،
ولكن السؤال هنا، هل نستشعر حقاً بقيمة أصحاب تلك القلوب التى ملئت بأرق المشاعر وبكل معاني الحب؟!
أولئك هم مَن إذا فقدناهم تبدلت الأرض والوجوه من حولنا، ويا له من إحساس بالوحدة والغربة، ويا له من حزن على من إعتدنا مشاركتهم ومساندتهم لنا،
ولكننا بكل أسف عادةً لا ننتبه إلا مؤخراً، وغالباً ما يكون ذلك عند أول سقطةً لنا حينما تمتد أيدينا باحثةً عن تلك اليد الحانية التي اعتادت أن تأخذ بها، فها هى اليد تسقط بلا سند ولا متكأ، فربما يكون قد فات الآوان، ويكونوا قد مضوا ورحلوا بعيداً بكل هدوء، وبدون مقدمات،
فى هذة اللحظة إستعد للمحاكمة!
نعــم إنها المحاكمة..
فيالك من مسكين إن كنت من المقصرين فى حق هؤلاء أو لم تكن منتبهاً لهم كما يجب أن يكون، أو كما كانوا منك ينتظرون، فعندئذاً لم ترحمك نفسك وستجعلك تعاني الكثير لِما تجده من ندم كلما استشعرت بالفقد والحنين..
وَلَكِن.. لا يمكننا أن نعمم فليس الجميع مقصرون، فهناك حتماً سعداء الحظ فى الدنيا والآخرة الذين علموا كم أن هؤلاء المميزون من أجمل النعم الربانيه وحاولوا جاهدين أن يهنئوا معهم وهم يوفونهم حقوقهم، وهناك آخرون ممن لم تفوتهم الفرصة بعد، ولكنهم قد يكونوا فقط غافلون عنهم سواء بقصد أو بدون قصد وفِي الحالتين كانوا لم يعيرهم الإهتمام اللائق بهم!
فعجباً! هل هُم مُجبرون لأن يبتعدوا لدرجة الموت حتى نشعر بهم وبمكانتهم فى قلوبنا؟!
رجااااءاً..إننبه،
تلك الأفئدة خلقها الله لتنال بهم خير الدنيا والآخرة فلا تحرم نفسك هذا الخير بالبعد والجفاء وإنكار الجميل،
فإذا نظرنا فيمن حولنا سنجد أن هناك الكثير منا قد فاته هذا الأوان وها نحن أيضاً فَمَن منّا لم يسلم من مرارة هَذَا الفراق لذاك الحبيب، قرة العين، ونور القلب، وكم تمنينا لو يعود يوماً، يعود لحظة، لنُقبل قدماً كانت تسعى جاهدة ًفى سبيل إسعادنا، أو نَضم رأسا أُرهقت من كثرة إنشغالها بهمومنا،
فكم إشتاقت العيون لرؤياهم وهم يهمسون لنا بالدعاء متمنين لنا من الخير مالا نرجوه لأنفسنا،
وكثيراً ما يشتد الحنين لهم ولكلماتهم التي يطيب بها الخاطر وتسكن لها الروح، وما أثقل ما نحمله لهم من مشاعر وكلمات تَقْنُت بداخلنا، فلم يسعنا الوقت للبوح بها أو حتى لسماع كلمة وداع تشفي القلب من ألم الفراق،
ولكننا سنمضي في الحياة، فهي مستمرة إلى أن يجمعنا الله بكل حبيب غائب عن أعيُننا وما غابت ذكراه عن البال والخاطر يوماً، فقد حفروا بعطائهم بصمة حُب كانت هى نبض القلب ليَحيوا بداخلنا ما دُمنا أحياءاً،
و لكن.. دعونا نبني جُسوراً للمحبة بيننا وبين أحبتنا الموجود منهم والمفقود أيضاً، لعلها تكون لنا ولهم سبباً للفوز برحمات رب السماء وذلك بالمودة والرحمة، و الدعاء لهؤلاء الأحبة،
فسبحان من جعل لحبهم ووصالهم جزاء العبادة، فحقاً هُم في الدنيا والآخره ( أصحاب السعادة )..
ولذلك.. فالبعيد منهم مهما غابَ عن العين ليس ببعِيدًا عن القلب،
فهو حبيب العين وفقيد الروح، وسيظل داخل القلب، وإن ذهب لأبعد دَرْب.
بقلم/ فايزة ربيع