ضاع التراث بين موقفين متطرفين مغاليين: أما الموقف الأول فهو مقدس للتراث، مؤمن بكل ما جاء به ولا ينبغي المساس به، بغض النظر عن تاريخيته، وسياقه الحضاري الذي أنتجه، وفقًا لحاجات عصره وما أفرزته من إشكاليات، وبناءً علي هذا الموقف فإننا لابد أن نعمل ‘منادين’ علي هذا التراث، ونكاد نحمله ولا ننتفع به. وأما الموقف الآخر فهو يري التراث دنسًا كله، وعقبة في طريق التقدم والحرية العقلية والحداثة، ومن ثم يجب هدمه والتخلص منه وإحداث قطيعة معرفية معه حتي وإن أصبحت الأمة بلا ذاكرة حضارية وعقلية وروحية، وبلا جذور. ولم يخل عصر من العصور الإسلامية من هذين الموقفين المدمرين ولكلٍ أتباعه ومريدوه. وقريبًا من الموقف الأخير, ما طرحه الزميل إسلام البحيري في إحدي حلقات برنامجه التليفزيوني الذي خصصه لنقد ونقض تراث الفقه والتفسير وبعض ما جاء في كتب الأحاديث الصحيحة كالبخاري، حين طالب بإحالة هذا التراث للاستيداع ووصفه بأنه صندوق قمامة ووصف بعض الفقهاء الكبار بأنهم مجرمون وقتلة ويجب أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف وكأنهم محاربون لله ورسوله، كل هذا لمجرد اجتهادهم في بعض المسائل فهو يريد أن يحجر علي هذه الأفهام، فيما يثبت لنفسه حق النقد والنقض والتفكير ولو عامناه بنفس منطقه لأصبح في موقف محرج لا يُحسد عليه، وقد عاد إسلام البحيري وتراجع وخفف من غلواء إطلاقاته ولغته الخشنة الحادة المتهجمة حينما ناقشه الدكتور أسامة الأزهري والشيخ الحبيب علي الجفري في حلقة ‘ممكن’ التي قدمها الأستاذ خيري رمضان يوم الجمعة 17 من أبريل الماضي، فقال إنه لم يقصد كل التراث ولم يقصد أشخاص الفقهاء وإنما أفكارهم وكتبهم، هي التي ينبغي أن تحرق وتقطع من خلاف، وهذا من ثمار الحوار البناء الموضوعي النظيف الهادئ الذي أداه باقتدار الشيخان الشابان الجليلان. وهكذا إذا أراد الأزهر فعل، مستخدمًا بعض طاقاته الكامنة وبعض علمائه المستنيرين الذين يتحدثون لغة عصرية، وينتهجون أسلوب الحوار العالمي الهادئ الودود الذي ييتغيا الهداية والحفاظ علي تراث الأمة وليس الانتصار لنفسه عليحساب الحقيقة، فلماذا يا أزهرنا كل هذا التأخر وأكاد أقول التخاذل؟ نحن نعلم أن ما يطرحه الزميل إسلام ليس جديدًا، وأن هناك الكثير من الكتب علي مرّ العصور الإسلامية تناولت هذه الأطروحات الشاكة الناقدة، ولكن نحن الآن في مناخ مضطرب، والأفكار حائرة، والناس يريدون الوقوف علي الحقيقة فيما يفعله كثير من المنتسبين إلي هذا الدين من الجماعات المتطرفة كداعش وغيرها من القتل والذبح والحرق والتمثيل بالجثث، مدّعين أن كتب التراث تحوي مثل أفعالهم، وهي مغالطة كبيرة. إن دور الأزهر جوهري في تجديد الخطاب الديني بالوسائل الحديثة التي أصبحتخطرًا وسلاحًا ذا حدين، ويقف الإعلام وتكنولوجيا الاتصال الحديثة في مقدمة هذه الوسائل فلماذا لا يركز الأزهر الشريف خطابه التجديدي عبر هذه الوسائل؟.. وقد أحسن الدكتور أسامة الأزهري إذ أعلن عن تقديم برنامج جديد له يتناول كل القضايا الإشكالية في التراث ويوضحها للناس بلغة عصرية يفهمونها.. وفي هذا السياق نتساءل: هل مؤسسة الأزهر بكل إمكانياتها العلمية والمادية، عاجزة عن تفعيل القناة الفضائية التي تحمل اسم ‘الأزهر’ومازالت تبث تجريبيا وتأبي أن تتحول إلي واقع ملموس. لا تحيا أمة من الأمم بدون تاريخ أو تراث لم تفعل ذلك اليونان ولا الهند ولا الصين ولا غيرها فهذه سنة التطور. وإذا اقتصر الإنسان علي معارف عصره فقط أصبح عقله ضحلاً، وذوقه ضحلاً، وإذا ما أقتصر علي تراث الماضي فقط وظل يفاخر به متكاسلاً، فإنه ينفصل عن حاضره وما يحفل به من تطور، وقد ذلت حديثًا أمة ظلت تفاخر بالقدم.