كتب د.صلاح عبادة كان المشهد الذي جري يوم الخميس 26 فبراير 2015، مثيرًا للسخرية والمرارة.. فقد كان تجسيدًا للبربرية والهمجية.. كان رمزًا للعقول المأفونة الجامدة المتزمتة.. مجموعة من الملتحين المنتمين إلي تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” ينهالون بالمطارق الحديدية الثقيلة علي تماثيل المتحف الآشوري بالموصل بالعراق، فيحطمونها تمامًا، ليخلصوا البشرية من تلك الأصنام، حتي لا يرتد الناس علي أعقابهم ويعبدوها من جديد!! المشهد الذي هزّ الضمير الانساني بعنف، وأثار ردود فعل دولية واسعة، كان محاكاة ساخرة، لموقف الرسول ـ صلي الله عليه وسلم ـ وهو يحطم الأصنام المنصوبة حول الكعبة المشرفة، مرددًا قول الله تعالي ـ “جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا”. فقد وقف شخص ملتحٍ أمام تمثال ضخم وراح يخطب قائلا: “أيها المسلمون، إن هذه الآثار التي ورائي إنما هي أصنام وأوثان لأقوام في القرون السابقة، كانت تعبد من دون الله عز وجل. إن ما يسمي بالآشوريين والأكاديين وغيرهم كانوا يتخذون آلهة للمطر وآلهة للزرع وآلهة للحرب، يشركون بالله عز وجل ويتقربون إليها بشتي أنواع القرابين” وأردف قائلا: “النبي محمد أزال الأصنام وطمسها بيده الشريفة عندما فتح مكة”. فهل فات هذه العقول المأفونة أن الحكم يدور مع العلة حيث دارت، فلا خشية من هذه التماثيل الشاهدة علي حضارات عظيمة سابقة، فقد نضجت البشرية وفارقت طفولتها الحضارية، فهل رأي هؤلاء أحدًا يعبد الأصنام بعد أن أكمل الله الدين وأتم رسالاته السامية بمحمد ـ صلي الله عليه وسلم ـ حين أوحي إليه في حجة الوداع آخر آيات القرآن نزولاً: “اليوم أكلمت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا”؟! سار البرابرة الدواعش علي خطي حركة طالبان الأفغانية عندما قامت بتحطيم تماثيل بوذا في فبراير من عام 2001، وكأن الدواعش يحيون ذكري هذا التقليد المقدس الذي سنته طالبان. والواقع أن المتابع لموقف الغرب من الحدثين يصاب بالفزع من كمّ النفاق والازدواجية والهوي المنحرف، فحين حطمت طالبان تماثيل بوذا أقام الغرب الدنيا ولم يقعدها ضد هؤلاء البرابرة أعداء الحضارة والانسانية والفن الرفيع، أما تحطيم تماثيل المتحف الآشوري بالعراق، والتي تعود لآلاف السنين وتحطيم معالم نينوي الأثرية، فإنها لم تؤثر في ضمير هذا الغرب المتحضر، الذي لا يكاد يلتزم معيارًا خلقيا واحدا نستطيع أن نرده إليه أو نحاسبه علي أساسه. إن أمثال تلك العقليات المأفونة الجامدة هي سبب نكبة الدين الإسلامي السامي الرفيع، فقد فتح المسلمون مصر وبها كل هذه الآثار الحضارية المعروفة كالأهرامات وأبو الهول، ومع ذلك لم يأمر سيدنا عمرو بن العاص بتحطيمها أو المساس بها، وكذلك لم يأمر سيدنا عمر بن الخطاب بإزالة هذه الآثار التاريخية التي تعد شواهد حضارية رفيعة تدل علي أصحابها. أما في مصر التي علمت الدنيا علم الإسلام، علمته حتي للبلد الذي نزل فيه ـ كما قال الشيخ محمد متولي الشعراوي ـ فإننا نجد نفس العقلية الطالبانية الداعشية، ألم يأمر القيادي السلفي المهندس عبد المنعم الشحات، بتغطية التماثيل بالشمع، لأنها كفر ـ حسب رؤيته الضيقة؟! ألم يصف الشحات نفسه أدب نجيب محفوظ بأنه أدب الدعارة والفجور والرذيلة، لأن الشحات ـ مع بالغ الأسف- لم يقرأ هذا الأدب، وإنما شاهد بعض مشاهد منه ممثلة في عمل درامي واجتزأها وحكم من خلالها علي أدب نجيب محفوظ كله بأنه أدب دعارة وخلاعة ومجون. لم يقرأ الشحات ومن هم علي شاكتله لأن القراءة فعل ايجابي خلاق لا يقدر عليه كثير من الناس. مع بالغ السوء والأسف إن العقلية المتسلفة ـ ولا أقول السلفية ـ الجامدة التي تتخذ موقف القطيعة المعرفية من ثقافة العصر، لا يقتصر ضررها علي نفسها وعلي محيطها القريب فقط، وإنما تصبح أداة هدم وتخريب ودمار في يد أمريكا والغرب المتربص بنا وبثقافتنا وحضارتنا الشرقية الروحية العريقة.. إن العقلية التي نريدها هي العقلية العصرية المنفتحة علي ثقافة الغرب والتعلم منه لمجابهته بأسلحته، كما كان يفعل المصلحون الكبار في تاريخ مصر الحديث أمثال الإمام محمد عبده ورفاعة الطهطاوي وطه حسين ولطفي سيد ونجيب محفوظ وسلامة موسي ولويس عوض.. والقائمة تطول لو أردنا الحصر.. هذا أو الطوفان !!