عبد الله بعمر شهور طير من طيور الجنة , جف ثدي أمه الرباب, شفتاه ذابلتان وكبده تلظى عطشا , ثلاثة أيام لا يذوق الماء !
رضيع يعاني الظمأ فَطَمـتْـه السِّـهامُ قَبـلَ الفِطام ما هو ذنبه ليحرم؟ شربة ماء؟
هل يستطيع أن يرمي سهما أو يضرب رمحا أو يضرب بالسيف؟
هل هو الآخر خرج عن أمر يزيد؟
ذلك النجم الصغير كان أكبرمن كل الشموس المتوهجة في الكون، عندما أريقت قطرات دمائه على وجه الحسين “عليه السلام” كان الإمام بذلك يوقع على وثيقة شهادته الكبرى أمام محكمة التاريخ.
وكأن حال لسان الحسين يقول : دَعَـوتُموني لنصري.. أينَ نُصرُكمُ ؟! وأيـن مـا خَـطّتِ الأقلامُ والزُّبُر؟
هل مِن راحمٍ يرحمُ الطفلَ الرضيعَ وقد جَـفّ الـرَّضاعُ وما للطفلِ مُصطَبَرُ
يوم المفاداة العظمى ذبح بين يدي الإمام طفله الرضيع كما أخرج نبي الله صالح عليه السلام فصيل الناقة إلى بني إسرائيل بعد قتلهم الناقة وناداهم إن كنتم قتلتم الناقة فها هو فصيلها خذوه لتسقوه يرفع عنكم العذاب ولكنهم ألحقوا الفصيل بالناقة قتلا، فصب عليهم ربهم العذاب صبا .
ولهذا قال الحسين في أحد خطاباته: اللهم لا يكون أهون عليك من فصيل ناقة صالح.
يا أهل العالم ما ذنب هذا الرضيع أن يذبح في حجرأبيه ؟ لاضـيـرفــي قـتل الـرجال وإنما ..قتل الرضيع به الضمير
يضام
طـلب الـحسين الماء يسقي طفله …فاستقبلته مـن الـعداة سـهام
أمه الرباب بنت إمرئ القيس من توفيت من أثر شدة حزنها وجزعها على الحسين وذلك بعد سنة من استشهاده (أي في عام 62) و من جملة أشعارها في رثاء الحسين :
إن الـذي كان نورا يُستضاء به ..فـي كـربلاء قتيل غيرمدفون
سـبط الـنبي جزاك الله صالحة …عَنّا وجنّبت خسران الموازين
هذه السيدة التي أوصى بها زوجها قبل شهادته كانت تنظركيف قتل أبنها الرضيع !
وكأني أسمع لسان حالها قائلة :
هـفا لِـعِناقِ الـسِّبطِ مُبتسِمَ اللُّمى وَداعاً.. وهل غيرُ العِناقِ يُلائمُه؟
ولَـهْفي على أمِّ الرضيِع وقددَجا …عليها الدُّجى، والدَّوحُ نادَت حَمائمُه
تَـسَلّلُ فـي الـظلماءِ تَرتاد ُطفلَها ….وقـد نَجمَتْ بين الضحايا عَلائمُه
فـمُذْ لاحَ سَهْمُ النَّحرِوَدّتْ لَوَآنّها ….تُـشاطِرُهُ سـهمَ الـردى وتُساهُمه
أقَـلَّـتْهُ بـالكفَّينِ تَـرشفُ ثَـغرَهُ ..وتَـلثِمُ نَـحْراً قَـبْلَها السَّهمُ لاثِمُه
بُنيَّ أفِقْ مِن سكرةِ الموتِ وارتَضِعْ ..بـثَدْيَيكَ عَـلَّ القلبَ يَهدأ هائمُه
بُـنيّ لـقد كنتَ الأنيسَ لوحشتي …وسَـلوايَ إذْ يَسطومِن الهَمّ غاشِمُه
والإمام المعصوم بين يديه حاله إنسانية أن ترك الطفل عطشان سيموت , فالواجب الشرعي يدعوه أن يطلب له شربة ماء رغم علمه بنفوس القوم الظالمة اللئيمة التي لا ترحم حتى الطفل الصغير. وأيضا اصطحاب الرضيع لساحة المعركة من قبل الحسين وأمام معسكر يزيد بن معاوية وعبيد الله بن زياد وعمربن سعد؛ لكي تتم الحجة عليهم وحتى يفضحهم أمام العالم بأنهم لا شرعية ولامنهاج لا في الحكم ولافي إدارة السلطة لهم والدليل على ذلك عدم رحمهم للطفل الصغيرفي ساحة المعركة . وبهذا ليعلم القاصي والداني فضيحة ونوايا المعادين للشريعة الإسلامية .
ينقل المؤرخون أنه قد حدثت حالة من الاضطراب في وسط الجيش، فإن بعض من بقي فيهم بقية روح أو وجدان قد استثارهم هذا المنظر، واستدعى احتجاجهم فقالوا : إن كان للكبار ذنب فما ذنب الصغار؟
لقد اعتدى بنو أمية على الطفل الرضيع فسقطوا في فخ عدم القدرة على تبرير حربهم الظالمة على آل البيت (عليهم السلام) .
لـهفي عـليهِ حـاملاًطِـفلَهُ .. يَـستَسقي مـاءً مِـن عِداهُ لَهُ فـبَعضُهم قـد قـالَ: رِفـقاً به وبَـعضُهم قـالَ: اقـطَعوانَسْلَهُ
لـمّا رأى حَـرملةٌ مـا جرى…. أرســلَ قـبلَ قـولِهم فِـعلَهُ أهَـلْ درى حَـرملةٌ مـا جنى أم ..هل درى ما قد جنى، وَيْلَهُ ؟ سـهمٌ أصـابَ نـحرَه لَـيتَهُ …..أصـابَ نـحري لَـيتَهُ قـبَلهُ
أمُّ الـذَّبـيحِ مُـذْ رأتْ طِـفلَها ..يَـضرِبُ مِـن حَرِّ الظَّما رِجْلَه سـبعةَ أشـواطٍ لـه كـابدَتْ …وهْـيَ تـرى مـمّا بـه مِثْلَهُ
وأمُّ مـوسى مذ رأت طـفلَها… فـي الـيَمِّ قـد ظَـنَّتْ به قَتْلَهُ
هـذا سَـقاهُ اللهُ مِـن زمـزمٍ ….وفَـرعُ هـذا قـد رأى أصلَهُ
أيـنَ ربـابٌ مـنهما مُذْرأتْ ….رَضـيعَها فـيضُ الدِّما بَلَّهُ تـقولُ: عـبدُالله يَقضي ظَمىً ..والـماءُ يـجري طامياً حَولَهُ كـنتُ أُرجّـي لـي عزاءً بهِ ..مـا كـنتُ أدري أن أرىثُ كْلَهُ عاد الإمام الحسين (ع) إلى المخيم يوم عاشوراء وهو منحني الظهر، وإذا بعقيلة بني هاشم زينب الكبرى ( ع ) إستقبلَتهُ بِعبدِ الله الرضيع (ع) قائلةً : أخي، يا أبا عبد الله، هذا الطفل قد جفَّ حليب أُمِّه ، فاذهب به إلى القوم، عَلَّهُم يسقوه قليلاً من الماء . فخرج الإمام الحسين (ع) إليهم ، وكان من عادته إذا خرج إلى الحرب ركب ذا الجناح ، وإذا توجه إلى الخطاب كان يركب الناقة . ولكن في هذه المَرَّة خرج راجلاً يحمل الطفل الرضيع ( عليه السلام ) ، وكان يظلله من حرارة الشمس . فصاح : أيها الناس ، فَاشْرَأَبَّتْ الأعناق نحوه، فقال (عليه السلام) :ـ أيُّها الناس، إن كان ذنب للكبار فما ذنب الصغار . فاختلف القوم فيما بينهم، فمنهم من قال : لا تسقوه، ومنهم من قال : أُسقوه، ومنهم من قال : لا تُبقُوا لأهل هذا البيت باقية . عندها إلتفت عُمَر بن سعد إلى حرملة بن كاهل الأسدي . وقال له : يا حرملة ، اقطع نزاع القوم . يقول حرملة : فهمت كلام الأمير، فَسَدَّدتُ السهم في كبد القوس، وصرت أنتظرأين أرميه . فبينما أنا كذلك إذ لاحت مني التفاتة إلى رقبة الطفل، وهي تلمع على عضد أبيه الحسين ( ع ) كأنها إبريق فِضَّة . فعندها رميتُهُ بالسهم ، فلما وصل إليه السهم ذبحه من الوريد إلى الوريد ، وكان الرضيع مغمىً عليه من شدة الظمأ، فلما أحس بحرارة السهم رفع يديه من تحت قِماطِهِ واعتنق أباه الحسين (ع) ، وصاريرفرف بين يديه كالطيرالمذبوح، فَيَالَهَا من مصيبة عظيمة . وعندئذٍ وضع الحسين (عليه السلام) يده تحت نَحرِالرضيع حتى امتلأت دماً، ورمى بها نحو السماء قائلا : اللَّهم لايَكُن عليك أَهْوَنُ مِن فَصِيلِ نَاقةِ صَالح، فعندها لم تقع قطرة واحدة من تلك الدماء المباركة إلى الأرض، ثم عاد به الحسين (ع) إلى المخيم . فاستقبلَتهُ سُكينة وقالت : أَبَة يا حسين، لعلَّك سقيتَ عبدَ الله ماءً وأتيتنا بالبقية؟
قال (ع) : بُنَي سكينة، هذا أخوكِ مذبوحٌ من الوريد إلى الوريد .
لقد تذكرحرملة أنه حينما استهدف عبدالله الرضيع بنبله المسموم ذو ثلاث شعب فذبحه من الوريد إلى الوريد وهوعلى يدي أبيه سيد الشهداء وسبط الرسول، حفروالده الإمام الحسين (ع) بغلاف سيفه قبرا صغيرا خلف الخيمة ودفن جثمانه الصغير، فذهب إلى محل الدفن وحفر القبرواستخرج جثة عبدالله الرضيع (ع) وقطع رأسه بخنجره وأتى به إلى تلك القبيلة الفاقدة للرأس، فعلقوا رأس عبدالله عليه السلام فوق الرمح، ولأن الرأس كان صغيرا ، والرمح أكبرمنه، ولم يقف على الرمح، ربطوه بالحبال إلى أن انتصب على الرمح ، وأمه الرباب تنظر إليه… و هكذا رفع وقطع نزاع القوم، كما رفعه من قبل حينما طلب الإمام له ماءا، فحصلت بلبلة وهمهمة بين القوم، ولكنه قطع ذلك النزاع، بسهم ذو ثلاث شعب ذبحه من الوريد إلى الوريد. روي المنهال أنه لما أراد الخروج من مكة بعد واقعة الطف بسنوات، التقى هناك الإمام علي بن الحسين زين العابدين السجاد. وسأله الإمام السجاد (ع) عن حرملة ، فقال : هو حي بالكوفة، فرفع الإمام يديه وقال: ( اللهم أذقه حرالحديد ، اللهم أذقه حر النار). ولما قدم المنهال الى الكوفة قصد المختار، وبينما هو عنده إذ جاءه بحرملة، فأمربقطع يديه ورجليه ثم رميه في النار، فأخبره المنهال بدعاء زين العابدين (ع) على حرملة. فابتهج المختاركثيرا لأن إجابة دعوة الإمام السجاد (ع) تحققت على يده.
السلام على عبدالله الرضيع، المرميِّ الصَّريع، المُتَشحّطِ دماً، والمُصْعَدِ بدمهِ إلى السماء، المذبوحِ بالسهمِ في حِجْرِ أبيه، لعَنَ اللهُ راميه « حرملةَ بنَ كاهلٍ الأسديّ » وذويه .