عبد الرازق أحمد الشاعرمن بلاد يأتيها الموت من كل مكان، ويتسابق على اغتصابها كل رعاع الأرض .. من بلاد لا تكاد تحصي أرواحها الفارة نحو السماء ونحو الحدود ونحو اليأس ..
ومن بلاد لم تعد تعرف الحب ولا الراحة ولا زقزقة العصافير وحفيف الأشجار ورائحة الياسمين .. من سوريا بلد المليون قابيل والمليون جالوت والمليون خيمة ..
من بلد أكلها العفن حتى النخاع ولم يترك حكامها أو محكوموها طريقا إلى الله أو الحب أو الصفح أو التسامح .. من هناك، ومن اللاهناك ..
حيث بدأ التاريخ وانتهى، وحيث خطا آدم الأول أولى خطواته، وحيث ارتكب أكبر خطاياه ..
من سوريا بلد الحزن المقيم واليتم المقدس، تقذفنا الروائية الشابة “مجدولين يوسف” بقبس من “أرواح معطوبة”، وكأنها تنثر فوق رؤوسنا المنكسة بالهزيمة رماد من رحل ومن عجز عن الرحيل في بلد استبدلت كل الذي هو أدنى بالذي هو خير.
في سبع وخمسين طلقة من القطع المتوسط، تختصر مجدولين يوسف معاناة شعب انقسم ذات خيبة على تاريخه ورائحة ليمونه وظلال جدرانه العتيقة، وخرج يبحث عن الموت في كل شارع وحديقة وثكنة عسكرية.
وبدلا من العودة بشارة النصر، عاد مواطنوه أجمعين بأجساد ممزقة و”أرواح معطوبة” ليمارسوا ما تبقى لهم من فناء في هم مقيم وفراغ موحش، في شبه وطن لم يعد له ظل فوق خارطة كان منها القلب والخاصرة.
في رواية “أرواح معطوبة” تفشل مجد في إقناع عمار بالعدول عن قرار اتخذه ذات حميه بالانتماء إلى الجيش الحر، كما تفشل في إقناع أبيها بأن عمار ليس إرهابيا لمجرد أنه ينتمي لثوار قرروا أن يعيدوا ما اغتصبه الأسد من أرض وضياع ليوزعها على طغمته الفاسدة.
ورغم يأسها من إصلاح ما أفسد الآثمون في الداخل والخارج، تقسم مجد أنها لن تكون لغير ابن خالتها شاء من شاء وأبى من أبى، حتى وإن اضطرت إلى خلع برقع الحياء وإلقائه على قارعة الطريق، والهروب مع من تهوى إلى حيث ينبت الأمل.
لكن عمار الذي طالت لحيته أكثر مما ينبغي يرفض عرضها المغري، ويغادرها دون وداع ليلحق بركب الثوار.
كان الشاب يمتلك من التقوى ما يحميه من وسوسات امرأة كانت بالنسبة له الوطن.
وحين يعود من الجبهة تسأله مجد إن كانت يداه تقطر دما، فيهرب من بؤبؤيها ببعض المداعبات الساذجة.
ويرفض أبو مجد أن يزوج ابنته لذلك “الفاشل” الذي قرر ترك الدراسة ليقاتل مع المأجورين الذين لا يريدون خيرا للبلاد ولا رغدا للعباد.
ويغادر عمار بعد أن يوصي رفيقة حزنه أن تتزوج من يرضاه أبوها لأنه يظن كل الظن أن لن يعود.
لكنه رغم ذلك يعود، ليعلن ورفاقه الرقة أول منطقة محررة من قيد الظلم، فيرد النظام بالبراميل الحارقة، ليتحول بيت مجد إلى ركام، وتحلق أختاها من تحت الأنقاض نحو السماء دون وداع يليق.
ولا يتبقى من سلالة أبيها غيرها، فتقتسم رغيف الحزن مع أب يهرب إلى أطلال بيته كلما خرج للصلاة ليتمسح بما تبقى من خراب هناك.
ومع أخبار مؤكدة عن إصابة معشوقها ورحيله إلى تركيا للعلاج، ترضخ الفتاة لإملاءات أبيها، وتتزوج من حمزة ابن الحسب والأصول.
لكنها لا تستطيع أن تنتزع جسدها من أحضان عمار عند أول لقاء يجمعهما بعد الزواج، ويدفعها عمار بما أوتي من ضعف حتى يستسلم أخيرا لدقات قلبه.
لكن حمزة هو الآخر لا يسلم من الوشاية، فيضطر إلى الهروب إلى أوروبا تحت جنح الظلام طالبا من زوجته أن تلحق به بأسرع ما تستطيع.
وبالفعل، تغادر الفتاة رغما عنها أبا لم يعد له في هذا العالم ما يستحق المعاناة، لتقيم على الحدود التركية ما شاء لها الحزن، وهناك يأتيها الخبر الصادم بموت عمار، فلا تستطيع أن تحتمل، وتسقط في هذيانها محموم تسأل القدر إن كانت تستحق كل هذه المعاناة وكل هذا الألم.
وتنتهي القصة عند هذا الحد، لتقف بها عند حدود الحدود .. فلا تحدثنا مجدولين عن لقاء مجد بحمزة أو عن عودتها إلى أبيها.
وكأنها اختارت لبطلتها أن تنتهي عند هامش الحياة كما بدأت على هامش الوطن، لتضعنا جميعا أمام فوهة المأساة لننظر ماذا نحن فاعلون، وتحرك في أرواحنا المعطوبة أي أثر لحياة بعد أن أكل الموت على موائدها وشرب.
كرغيف محروق، تضع مجدولين قصة بطلتها المنكوبة على موائد عقولنا الخاوية لتخاطب فينا أي أثر من ضمير أو أثارة من وعي. ومثل ورقة ذابلة في شجرة يابسة عند حدود منسية، تنتظر مجد ككل السوريات البائسات موسم السقوط في مخيم لم يعد يتسع لأي حلم من أي نوع.
ويبقى العالم شاهدا صامتا على جرائم ترتكب من كل نوع بحق شعب لم يطلب سوى الحرية والعيش والكرامة.