أخبار عاجلةأهم الاخباراسليدرالأدب و الأدباءمقالات واراء

أرجوك ياأبي لاتمت .. قصة قصيرة : جيهان حكيم

                                      (1)

يشاهد التليفزيون بعدما يكون قد تناول أفطاره المعتاد وبجواره كوب الشاي بالنعناع ثم ينادى
_تعالي ياأميرة أجلسى معي
_ حاضر ياأبي
مثل شجرة اللبلاب ، يتسلق ذكريات سنينه
أنصت إليه وأنا أحدق إلى عينيه الضاحكتين من خلف زجاج نظارته وهو يحدثنى عن محطات أرتادها في فترات متفاوتة من حياته الماضية أوذكرى متلاشية
لمعت عينيه فجأة ، ثم حدق صوبي وقال بهمس وهو يضع يديه النحيلتين حول فمه   
_ سأخبرك بسر, في شبابنا كنا مشاكسين كنا نجوب أكبرعدد من شوارع القاهرة قاطعين المسافات  للحياة والمرح  بكل ألوانه
وذات يوم هاجمني ألم شديد   في جانبي الأيمن حتي تصلبت قدماي ولم أعد أقوى على الصمود وأرتطمت  بالأرض , بعدها نقلونى إلي المستشفي
أتعرفين، لم أتألم حين أسئصلوا الزائدة
قلت ضاحكةً بعبث : 
_ طبعاً الرجل الخارق ؟
وبأنسيابيّةٍ محبّبة أسترسل قائلاُ :
_ لأن أمك كانت الطبيب المعالج وقتها
رمقته بنظرة ودودة ؛ فقد كان يسترجع شبابه في اليوم بعشراتٍ من القصص والحكايا ليخبرني من خلالها عن حبه وعشقه لأمي
بتنهيدة عميقة أردف :
_  تلك اللحظات الجميلة والضحكات التي رحلت بصداها لم تعد تأتي ياأبنتي
وفجأة يتوقف عن الكلام .. ثم لا تمضى دقائق إلا ويكون قد غلبه النعاس  

                                      (2)

بينما يعيش هو عالمه مستكيناً راضياً كانت مطارق وجع ثقيلة تهوي بعنفٍ على رأسي وأنا أراه يحيا هذا الشرود والتخبّط   
 
رويداً رويداً , بدأت  تعصف به الذاكرة إلا من روائح الذكرى , ولم يعد هناك إلا طفل يحكى لي وأسمع منه , يحدثنى عن أمور يتردد العقل في تصديقها وأحياناً عن أشياء يجهل نصها وأصلها
 
جاهدة ما أستطعت أبسط  له جناح الذل وأجاوره في رحلته    
رحت أسمعه بصبر، وأصدّق علي ما يقول , تارة أبتسم وأشاركه الكلام , وتارة أعده بالبحث عن أشياءه , وتارة التصق به أداعبه
ولم يعد يهمني علة قلبي وأرتفاع ضغطى وتأكل مفاصلي بقدر ما يهمنى راحته فرحت أبذل جهداً مضاعفاً لرعايته حتى فقدت توازني وسقطت  خلف غيوم الحسرة   
لكن !!
مازلت أحيا وأشعر وأرى وأسمع من أجله , فقد كانت أبتسامة الرضا على وجهه تنسيني كل الإرهاق
 
                                      (3)  

ككل يوم أفكاره تحوم تائهةً لا تستقر وسط زخمٍ من الأحداث تتزاحم الصور، تتكاثف ، تتداخل ببعضها , تتقاتل في رأسه تريد أن تنطلق
غاص في كرسيّه الوثير و وللمرّة الألف يسألنى :
_ جهزى نفسك يا سارة سنذهب لشراء جهاز أختك
قلت بعفوية :
_ أنا أميرة ياأبي , سارة ماتت منذ عشرين عاماً
يصحح لي :
_  الله يخرب بيت دماغك   .. أنتِ نسيتي أسمك كمان
وبصوتٍ مخنوق مزّق قلبي وجعاً قلت :
 _  فعلاُ نسيت 
بعدها طلب فنجان قهوته السادة ، وتاهت نظراته تطوف المكان ثم قال فجأة وهو يضع الهاتف بين يدي :
_ كلمي زوجك
ولأنني عن الزواج أعلنت أضراباً قلت بدهشة :
_ أنا لست متزوجة !!
نظر إلي  وعلامات الجد على وجهه قائلاً :
_ كيف؟ أنا بنفسي زوجتك منذ خمسة عشر عاماً
شعرت بالتعاطف معه وبالخوف عليه فقلت :
_  حسناً ياأبي      
وكإنه يتابع شريط صوروأحداث الصبا لكنه لا يزال يستصعب جمعها كاملة يوم أمس ، وأنا أصلي الفجر, تأنق في ملابس الخروج  كعادته    ثم أرتدى فوقها عباءة المنزل وطلب مني أصطحابه إلي المستشفى ليتابع أخته الصغري المتوفية قبل ولادتي حتي !!
ثم توقف للحظات وبسرعة مذهلة عاد إلي غرفته ليستكمل نومه  
 
اليوم سقط قلبي بين قدمي ، وتملكني شعور جارف بالآلم عندما أصطدم بحافة المكتبة وأرتطم بالأرض     
هرعت إليه ورفعته بلطف إلى  الأريكة وبنظرة حائرة  سألني :
_ أين شاشة التلفاز ؟ برغم وجودها أمامه
فى نفس اللحظة طلب مني فتح التليفزيون ثم أمتدت يده المرتعشة لي بطبق الفاكهة بدلاً من الريموت

نهاراً، تبعثرت نظراته وذاكرته جامعة كلّ الخيوط لمشهد بعيد في محاولة لإعادة نسجه من جديد و ببطءٍ متثاقل فتح الباب قائلاً   :
_  أدخلوا ياأحبائي !!
 نظرةٌ سريعةٌ مني ألقيتها لأصطدم بفراغ الباب فدائماً ما كانت عيناه تحدقان في نقطة وهمية أن أحفاده مازالوا أطفال ويضغطون على جرس الباب بشقاوة برغم تخرجهم جميعاُ من الجامعة
بعدها بدقيقة يعود لطبيعته ولا يذكر ماذا فعل حينها

على غير عادته تناول عشاءه ثم نهض وأغلق باب حجرته وجلس خارجها متصوراً إنه بالداخل قائلا لي
_ لا تزعجونى
حين عدت من السوق فجأة وبدون مقدمات 
قفز إسمي من بين دهاليز ذاكرته المعتمة وتناثرت دموعه على خيوط عباءته  :
_  ستسافرين وتتركيني وحيداً ياأميرة ؟

كانت آهات من الويل تخرج من فؤادى ، كلما رأيته يساق إلي الهذيان  فقلت لنفسي ( أي سفر تتحدث عنه يا أبي )
لكنى تماسكت وأمسكت يديه وقلت :
_أنا لن أتر كك أبدًا
  
                                       (4)

توالت به الأيام والشهور متشابهة الحدود والأبعاد لايتغير فيها إلا القصص والتصرفات التي يفاجئنى بها يومياً
لقدغرق في عالمه الجديد وأستمر حاله هكذا إلي أن جاء يوم أستسلم فيه تماما للنوم العميق
وقتها أنتفضت من سكينتي كمن مسها ضر
أنه في غيبوبة
نعم غيبوبة ذات سمات مختلفة , ينهض منها دقائق يطلب الطعام الذى لا يتناول منه إلا لقيمات معدودة وشربة ماء وحين ينتهي يستغرق في نومه
لم أحزن قط مثلما حزنت فى ذلك الوقت لقد تحول نهاري جحيم وليلي كوابيس , لم أستطع أن أتحمل رؤيتي له على تلك الحال
حينذاك أطلقت العنان للدمع الذي عبر السيطرة لحد النحيب وتمنيت أن يصاب الزمان بالسكتة ، فيعود أبي إلى طبيعته  ولكنه الزمن حيث يسود إلا معقول ويصبح إلا طبيعي طبيعاً
              
                                         (5) 

ككل ليلة أمضي الساعات الأولي من الليل في توتر متشعب , أغفو دقائق ثم أفيق حتي أختلط صحوي بمنامي  
أنتفض مذعورة وبداخلي بركان يهيج وأسئلة حيرة تعكر صفوي وترهق ذهني ونفسي
وكما يصعقك مسٌّ كهربائي، صُعقني صوت الطبيب يخترق سمعي     
” أن الباقي قليل ”
لحظتها أحتدم الصراع بين مشاعرى المتمردة وضعفي وبين قوة الموت التي تزلزل الكيان حتي تخليت عن كل معنى يربطني بشكل أو بآخر مع الحقيقة لأتحول لشرسة تفترس المآسي في حرب فاشلة  للحفاظ على ما ليس من حقها
وظللت أتساءل ببلاهةٍ مفرطة
(  كيف يموت أبي قبلي؟ )
( وماذا عساى أن أفعل بدونه ؟ )
(  أرجوك ياأبي .. لاتمت  )
( هل ستموت ياأبي ؟)   
سؤالٌ ظللت أردّده ، ولم أجد له صدىً سوى صوت الواقع الذى جاء من وراء الباطن كسياط  تجلد الوجدان بحقيقة أن الأرض ستأخذ مالها ، والسماء ستأخذ ما لها ؟   
وهذا مالا أريد الأعتراف به حتي لنفسي , لأننى حتى الآن لم أتجاوزرحيل أمي ”  فأمي كانت النقاء بعينه ، وأبي يشعّ طيبةً رغم مزاجه المضطرب
أعرف أن الموت لا مناص منه أن عاجلآ أو أجلآ ولا رد لمشيئة الله ولكني لا أتخيل حياتي بدون أبي , فمنذ كنت صغيرة وأنا ملتصقة به كظله , فأنا أعيش من أجله , وأدور في فلكه , ألازمه ليل نهار
فعندما كان الجميع يقول لي أنتِ تشبهين والدكِ كثيراً في أناقة شخصيته ووسامته كنت أشعربالأطمئنان والزهو، متفاخرةً بينهم بأن الأمان دون وجود أبي مزيف  
 
                                      (6)

ككل يوم أتقدم بخطوات متأنية إلي غرفته وأنا أرتجف
أقترب منه وأختلس النظر إليه  باحثة عن خفقات النبض التي ترتفع وتنخفض في صدره ليطمئن قلبي
إلقيت بجسدى على المقعد الملتصق بالنافذة غارقة في دوّامةٍ توترمعتمة ، يتلاطمُ فيها صخبُ القلق والخوف البغيض الذي يزداد ويضغط بشدةعلي قلبي المثقل بالذبحة والقصوروالأنسداد
حاولت الإسترخاء قليلًا دون جدوي وكأن يداً خفيّةً تمسك بي وتسحبني إلى الوراء وكما الريشة الصغيرة في مهبّ الريح وجدتني لا قوة لي على المقاومة غير قادرة على أستجماع حواسي
فتّشت عن صوتي كي أستغيث، فلم أجده
هرعت إلي عقلي وقلبي لكنهما أجتمعا سوياً علي  لومي وجلدي وسلب الأرادة مني , حتي روحي هجرتني إلي أن وصلت لدرجة لا توصف من الأنهيار النفسى الصامت الباكي  
      

الكاتبة جيهان حكيم

كاتبة حرة وأدبية حصلت على العديد من الجوائز في القصة القصيرة ، خريجة إعلام القاهرة , نائب رئيس مجلس إدارة مجلة المجتمع سابقا ، نائب رئيس تحرير جريدة الأمة ، رئيس القسم الثقافي بصوت مصر الحرة ،كاتبة مقال الرأى بجريدة صوت الوفد ، جريدة العالم الحر ,جريدة الوتر، جريدة نبض الشارع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى