أوبئة وجوائح فتاكة عرفتها البشرية على مرتاريخها كالطاعون والكوليرا والسل؛ حيث بدأ تاريخ ظهورتلك الأوبئة وفترتها الممتدة من القرن السابع إلى القرن الثالث عشرالهجري, فحظيت تلك الفترة بتأليف واسع وكثرة المصنفات , فعلى سبيل المثال أول من ألّف في هذا المجال هو الحافظ أبو بكرعبد الله بن محمد بن أبي الدنيا (281هـ) (كتاب الطواعين), ثم تاج الدين عبد الوهاب بن علي السبكي (771هـ) (جزء في الطاعون), وبعده ولي الدين محمد بن أحمد الديباجي (774هـ) (حَل الحُبا لارتفاع الوبا) , ثم الأديب شهاب الدين أحمد بن يحيى التلمساني، المعروف بابن حجلة (776هـ) (الطب المسنون في دفع الطاعون) .وابن حجر العسقلاني (852هـ) (بذل الماعون في فضل الطاعون) .و شمس الدين محمد بن علي بن طولون (953هـ) (تحفة النجباء بأحكام الطاعون والوباء). و الشيخ يوسف بن مرعي الحنبلي (1033هـ) (ما يفعله الأطباء والداعون لدفع شر الطاعون) .و زين الدين محمد الشافعي (1131هـ) (منحة الطالبين لمعرفة أسرار الطواعين) .وحمدان بن عثمان الجزائري (1253هـ) (إتحاف المنصفين والأدباء بمباحث الاحترازعن الوباء).
أما الأدب من بين كل الفنون جميعا هو أكثرها التصاقًا بالواقع, فمن خلال وحدة الآدب بالكلمة التي تعتبر أكثر الوسائط الفنية قدرة على تصوير وتشخيص واقع الإنسان , فبالكلمة يحيا الفرد ويتواصل مع غيره ثم يتجاوز الواقع المرير المؤلم . لكن عندما تفشي فيروس كوفيد-19في وقتنا المعاصر عادت الذاكرة إلى الروايات الأدبية الحديثة وبالرغم من الرمزية ,إلا أننا نجد تلك الأعمال الراقية تحمل بين ثنايا سطورها مفهوما بأن الإنسان لايتقبل البلاء ويحاول أن يوهم نفسه بعدم وجوده ويعتبره كابوسا يشاهده في حلم ثم يعض أصبع الندم لآنه لم يتخذ الاحتياط. عموما كان هناك أبداع حقيقي في الآدب الروائي في العصرالحديث وأشتهرت عدة روايات منها : رواية (العمى لـ جوزيه ساراماجو) ,و(الحب في زمن الكوليرا لـ غابرييل غارسيا ماركيز)، و(المحطة الحادية عشرة لـ سانت جون ماندل), و(دفترأحوال عام الطاعون أصدرها الكاتب الإنجليزي دانييل ديفو) , و(عام الطوفان الكاتبة الكندية مارغريت آتوود), و(ستاند لستيفن كنغ) ,(ووهان 44 لدين كونتز).
وأن أفضل نتاج سردي وجودي تناول مسألة الوجود والموت قد تمثل في الأعمال الأدبية للروائي الفرنسي ألبير كامو وبخاصة في روايتيه الغريب والطاعون. وهو الفيلسوف الوجودي ألبيركامو (1913 – ت 1960) كاتب مسرحي وروائي فرنسي. ولد في قرية الذرعان التي تعرف أيضاً ببلدة مندوفى بمقاطعة قسنطينة بالجزائر. مؤلفاته الروائية : السقوط (1956) , الغريب ,الطاعون, السقطة, المقصلة , الإنسان المتمرد ,الموت السعيد ,المنفى والملكوت ,الرجل السعيد. وله عدة مسرحيات ومقالات فلسفية . رواية الطاعون تعد أكثر روايات كامو انهماكا بالشأن العام وتناولا له، وهنا يستخدم كامو لفظة “الطاعون” كاستعارة عن العبث الذي يعتري الوجود الإنساني، والموت الذي يترصد الجميع أفرادا وجماعات والذي لا يمكن رصده ولا التنبؤ به فاللفظة مجازا للتعبيرعن شكل الحياة الذي أنتجته الإيديولوجيا النازية والموت الذي بثته في هذا العالم, لذا كانت محطّ نقد شديد، إذ تشي بأن هذا الشر والموت مجهول المصدر، لا نتيجة لخطابات وسياسات وقفت خلفها السلطة النازية. لهذا يصف النقاد رواية كامو، بتجسيد صراع المقاومة الأوروبية ضد النازية، والدليل على ذلك، أن هذا العدو الذي لم يكشف عن اسمه، اعترف به الجميع، وفي جميع بلدان أوروبا، لكن لا يمكن رؤيته بالعين المجردة.
وبإطار زمني محدد تتعقب الرواية وباءِ مُعين وموضوع الكاتب الحقيقي يقع خارج الزمان والمكان، خارج الرُّقع الجغرافية والأعلام والعملات والأناشيد الوطنية؛ يقول كامو: إنَّه ضعفٌ إنسانيّ عالميّ: الجميع يعرف أنَّ الأوبئةَ لها طريقةٌ متكررة في العالم، ولكنْ بطريقة ما نجدُ أنَّه من الصّعب أنْ نعتقد في أنَّها قد تسقط علينا فجأةً من السماء .
أن من شخصيات الرواية الطبيب الفرنسي برنارد رييو الذي كان يعيش في محل وجود الوباء في وهران بالجزائر .. هذا الطبيب كان يتعامل مع الفرنسيين في المدينة فقط . وغيب التعامل مع السكان العرب بشكل كامل !, لكنه بعد اكتشاف الوباء قام بواجبه الطبّي والإنساني على أحسن وجه , فلعل أكثر الشخصيات جدلاً فلسفياً هي شخصية هذا الطبيب , والذي يبدو أنه البطل الذي اختاره كامو لروايته، وذلك لدوره في مواجهة الطاعون.
لقد بدأت آلاف الجرذان تموت بالشوارع ,فانتابت الناس الهستيريا فتنامت وازدادت ثم تناولت الصحف هذا الحادث حتى يتساءل كاتب عمود في الصحيفة التي تصدر في وهران قائلا: “هل يدرك مسؤولومدينتنا أن الجثث المتحللة لهذه القوارض، تشكل خطرا داهما على السكان؟ ونتيجة تذمرالاهالي قامت السلطات بجمع الجرذان وحرقها ثم دفنها , إلا أنها أغفلت بأن العامل المحفز لانتشار الطاعون هي الجرذان .
والرواية تطرح أسئلة حول ماهية القدر والوضعية الإنسانية. تتمحورحول فكرتين أساسيتين هما التمرّد والعبثية، وهي في الوقت نفسها تطرح رؤية حول الموت والوجود، وأسئلة فلسفية تتعلق بماهية القدر والوضعية الإنسانية، إذ بعد عشرة أشهر قاسية ومرعبة يبدأ وباء الطاعون بالاختفاء بفضل تكاتف الجميع وسعيهم لتحقيق خلاصهم الجماعي، إذ نجح الطبيبان ريو وكاستيل بإنتاج مصل مضاد أعطى مفعولاً في وجه الطاعون، ليترقب ريو نشرالإحصاءات العامة التي كانت تذاع في مطلع كل أسبوع، فإذا هي تكشف عن نهاية الوباء. والحقيقة الروائي ألبيركامو أبدع ابداعا ملفتا للنظر ويظهر ذلك جليا عندما شبه حالة الحرب بحالة تفشي الوباء في البلاد، وكيفية ربط ما بين طريقة تعامل الناس وتفاعلهم مع كلتي الحالتين.
ووصف كامو عالم ما بعد المرض، ويقول لقد انتهى الطاعون مع الرعب، وكانت هذه الأذرع التي تتشابك.. تُعبر في الحق عن أن الطاعون كان نفيا وتفريقا بمعنى الكلمة العميق. ولأنه لم يكن تنبؤا بقدرما كان تشابها في الحالة الإنسانية العامة التي دائما ما ترافق الأمراض والاوبئة على اختلاف مسمياتها، يمكن أن نخلُص من هذا الأمربحقيقة تدعو للتفاؤل، مفادها أن كل شيء –مهما طال عليه الأمد- يؤول في النهاية إلى زواله الحتمي. وهكذا سينتهي هذا المرض ويختفي ويتلاشى تماما كما فعل سابقوه، وستستمرالحياة مرة أخرى بشكلها الطبيعي. وأخيرا وبصورة واضحة يتخذ كامو موقف إدانة لكل أشكال التبرم والتنصل من مسؤولية الإنسان في الوجود، فمحاولات الإفلات من مواجهة الشرأو اتخاذ موقف غيرمبال تجاهه أو الاستسلام لسطوة الموت هو أمريعده كامو انتحارا فلسفيا. في النهاية، ثمة درس يستخلصه الناجون من الطاعون مفاده بـ أننا نعلم الآن أنه إذا كان هناك شيء يمكن أن يتوق له المرء دائما، ويناله أحيانا، فهو الحب الإنساني.