أخبار عاجلةأخبار مصرأهم الاخباراسليدرالأدب و الأدباءاهم المقالاتمقالات واراء

أحلام من الأسي _ قصة قصيرة الكاتبة : د.جيهان حكيم

أمد يدي إلى جيبي وأنا في الطريق بأتجاه أزقة معتمة حيث تعيش عجوز من زمن الماضى البعيد , فلا أجد سوى ورقة مطوية بالية ينتابني إحساس بالضياع , بالمرارة إحساس لا أستطيع تحديده فعندما أقررالتراجع عن زيارتها يتردد صدي صوتها في أذني ويسلبني الجرأة التي حاولت أن أعطيها لنفسي

ودون أرادة منى أجدني مندفعة بالخطى خلف رغبة جامحة تجبرنى على مواصلة السيرإليها
أدلفُ إلى البيت القديم ، أصعد إلى غرفة العجوزالعتيقة
أقف للحظة لإسترداد أنفاسي ألمتقطعة أجر قدمي مجهدة

أحاول أن أقاوم ما أنا فيه من قلق دون جدوي
أطرق الباب فلا ترد
أعاود الطرق أكثر من مرة لكن لا مجيب

وقتها ساورني شعوربالتردد فتشبثت به وحين هممت بالمغادرة أنفتح الباب من خلفي
وضرب صدى صوتها الصمت

_ تأخرتِ؟ “

 

( يا إلهي .. كيف عرفت أنى آتية ؟ )

 

همست في سرى

 

وفى إشارة سريعة قالت :

 

_ أجلسي
جلست علي الكنبة المنزوية في ركن الغرفة الكبيرة التي سكن الأطلال بكل إرجائها الهشة
وبينما كانت نظراتى تتفحصان وجهها بتمعن وأهتمام بالغين تحركت إلى الداخل لتحضير القهوة تاركة إياى أتعثربتفاصيل الأحتمالات وتلال من أسئلة تتداخل وتتصارع وتتضخم ثم تحط في هجوم جماعي على رأسي

 

( يا إلهي ماهذه الحيرة ! )

( هل هى عجوز حقاً ؟ )

 

( أيعقل هذا .. ؟ )

 

كيف وتقاسيم وجهها مازالت تحمل جمال جذاب مختبئ في حمرة خديها متحدياً هذه السنين ؟

 

وماذا عن بشرتها الخمرية الناعمة النضرة التي لاتجاعيد ولا أخاديد حُفرت فيه ؟

 

وشيء أخر يثير الجنون حين تتحدث معها تجد بداخلها مزيج غريب بين روح شابة غامضة وطفلة لم تكبربعد

*************

يذهلني أختلافها

 

ربما كان هذا الذهول محفزاً لأن أسألها وهى تمد يدها إلى بفنجان القهوة :

 

_ ما هوعمرك ؟

_ سبعين أوأكثر

أنظر إليها مستفهمة:

 

_ كيف ذلك , أراكِ في الثلاثين !

عدّلت من غطاء رأسها عدّة مرات ثم قالت :

 

_ تريدن السر ؟

_ نعم

قالت بنبرة صوت متأنية وهادئة :

 

_ أنا تلك الحمامة التي خَلَّفت السربُ وهاجرت

_ إلي أين ؟

_ أزمنة أخرى

( أزمنة أخري!!) قلت في نفسي

طافت بشفتيها أبتسامة خفيفة وقالت :

 

_ هناك التقيتك

وضعت فنجانى على حافة الطاولة وقلت لها بتعجب :

 

_ لم يسبق لي أن رأيتك من قبل !!

أنتقلت بعينيها بين الفنجان ووجهي وقالت :

 

_ قبل سبعون عاماً

شهقت بدهشة :
_ أنا في السابعة عشر من عمري !!

_ إلا تذكرين ؟

_ أى نوع من الفتيات تظنينني ؟!

 

قالت بدون تردد :
_ أنتِ نفس الساذجة التي لا زالت تقف خلف نافذتها في ذاك القصرالمهيب بروحٍ كبلتها بسلاسل صدئة مغبرة

قلت مستنكرة :
_ هذه أنــــــــــا ؟

_ بالتأكيد

_ مستحيل

صمتت قليلا ، وقد أتسعت عيناها في تحد مُضاعف ، قبل أن تستطردَ بنفسِ النهج :
_ فتاة في مثل دلالك وأنوثتك وجمالك، يستحيل ألا يحبها أحد

بثقة :
_ أعرف ذلك
_ ألم أقل لكِ إنه بقدرما تثيرين إعجابهم ، فإنك تثيرين دهشتهم

_ ربما توهمتِ ذلك

_ أوربما كان حقيقة

_ لا أبداً ، من قال ذلك ؟

_ أذاً أعط لإحداهم فرصة

_ هذا ليس من شأنك

_ ربما أحدهم ينتظرك ليصنع لكِ عرش كعرش بلقيس

_ لكنه ليس هو

_ لكنهم بالفعل حاولوا أن يجدوا إلي قلبك سبيلاً

_ قد يراني ولا أراه

رد تّ علي َّهامسة :
_ منذ طفولتك وأنتِ تخترعى لنفسك رجلاً تبثيه خلجاتك

_ ماذا تقصدين ؟

_ ثمة حاجز لا مرئي يحجبهُ عنكِ

قلت بحنق :
_ مجرد هلاوس عجوز أتلف الهرم عقلها

_ هل أنزعجت ِ

_ ومما أنزعج ؟!

قالت بعد أن رَمَقتـني بنظرة عميقة :
_ ربما كنت أشبهك

_ كلا أنا .. لا أشبهك على الإطلاق

_ بلي إنه عهد أوثقه الزمن بيني وبينك

_ لا أثق في كلامك

 

_ لايهم , المهم أنك الآن فيه وبداخله

_ هذا كلام من يعتبرون أنفسهم عرافين

 

أكتفت بالنظر إلى دون أن تبدى أي انزعاج ، بعدئذ رجعت بظهرها إلى مسند المقعد وقالت بثقة :
_ أنت لا تصدقين العرافين ؟

_ لا

ترميني بأبتسامةٍ تغلّفها السخرية قائلة :
_ وماذا عن بذورأحلامك الفضفاضة التي عكفتِ على تحقيقها بين جدران وطقوس الرومانسية البلهاء , وكلما أنبتت وقفتِ بها على حافة قبر جديد ؟

بعناد :
_ ورودى تلازمني

_ دائماً ما يحصل الأموات على الزهور أكثر من الأحياء

تمتمت في داخل نفسي بشيء من المرارة والضجرثم قلت منفعلةً:
_ أنا لازلت على قيد الحياة

_ هي زفرة تميزك عن الموتى

_ أي خرافة هذه ..؟

_ إلا تعلمين أن للقبور حكايا

كلامها أثار أستفزازي وأستغرابي
أهي شخص يعرفني من قبل حقاً ؟
وفيما هممت بالرد قاطعت حيرتي قائلة:
_ سَيبقَى صوتي عالقَاً في ذَاكِرَتِكَ

_ سأغادردون رجعة

_ لقد زجوك بالسجن

_ ياالهي لما كل هذا ؟

مدّت يدها إلى جيب ثوبها وأخرجت مسبحة شرعت تتحسّسها وقالت وهي تنظر إلي بهدوء :
_ لئلا تحلق عصافيرك

أنتَفَضت من مكانِي والدّهشَة تملأ عينَيْي وزال الفضول الذى غمرني في البداية وحل محله مراريعتصر قلبَي بألم يكاد يشق صدري ويوقف خفقانه وأحاسيس شتي تتآكلني
شعرت كأني قد أنقسمت إلى أثنين فأستدرت نحو الباب بسرعة يسبقنى لهاثي ويربكنى وجعي الغائرحتي تعثرت بخطواتي منفية خلف قضبان بلا محطات

 

                              *************

أستندت برأسي إلى الحائط وهمومي تستلقي بجانبي أحلق في الأفق وأسافرإلى أحلامي
أنظر إلى نافذتي التي تصطف عليها العصافير فتتيه نظراتي في الأفق البعيد
أفتش عن نجوم محتجبة خلف غيم كثيف
أمنى نفسي بتفاصيل عالم جديد في نهايته كوخ أبيض صغير يحتضن أشجارالفل والياسمين وفارس يمتطى حصانه الحقيقي يشبه عبد الحليم وهو في العشرين
أفيق على تهديد أمي وتفر الأحلام إلى أقفاصها مذعورة

 

_ تبا لك ، كم مرة أخبرتك بأن لا تسهري

قلت منكسرة :
_ لكن أنا خائفة ..

ينغلق وجهها عابساً :
_ النافذة مفتوحة , إلم أقل لكِ ألف مرة لاتفتحيها كى لاتدخل الحشرات والفئران

تلعثمت وقلت بصوت مكتوم :
_ ياأمى أنا أسمع أصوات تتعالي وتنوح وتجعل سكينة ليلي حفل صاخب و…

_ قاطعتنى بسخرية :
_ ألن ننتهى من هذا الهذيان ؟

_ أقسم لكِ بأنّي لاأهذي ، ولستُ في حلم ، بل ما أقوله حقيقة

_ أخرسي

 

قالتها وهي متجهة نحو النافذة لتغلقها وتندب حظها لأنها أنجبت فتاة بلهاء مثلى ثم ختمت كلامها :
_ مصاريف وفواتيروأكل وشرب وأنتِ بلا إحساس

حاولتُ النطق ، لكنها صفعتنى بعينيها
أدركت حينها أن صفعات العيون أشد ألما من صفعات الكفوف وأن وجعها أعمق
ووجدت صعوبة في مقاومة الدمع الذي تدفق من عيني , فهي تعلم إن مشكلة حياتي إني حساسة لدرجة تفوق الخيال

 

قلت بأستعطاف :
_ ياأمي لا تغلقي النافذة

تجاهلت رجائي وأغلقتها بأحكام ثم قالت بإصرار:
_ إن سمعتك تثرثرين بتلك الحماقات مرة أخرى , أقسم أنى سأخنقك , أفهمتِ ؟

عقد الخوف لساني فهززت رأسي عاجزة
كنت أعرف الإجابة مسبقاُ وأعرف مقولة أمي التي تستخدمها ببساطة أن تابعت حديثي معها

 

( كلمة ورد غطاها ، أسمعي الكلام وإلا قسماً عظماً )
أحتفظت بمرارة الشعور بأنني أعيش في بيت مقفلة أبوابه ونوافذه وليس للأماني فيه منفذ وبالتالي لا يشغلنهم شيء من أمري فوجودى ليس سوى أمر تافه لا زنة له

 

حين همت بالضغط على مكبس الضوء رحت أستعطفها من جديد :
_ أرجوكِ يا أمي .. لا تطفي المصباح , الخوف يلازمني

رمقتني بغضب :
_ يالك من غبية

ثم اردفت بلهجة أكثر حدة :
_ أجلسي مع خرافاتك من دون أضاءة النور

أرتطم الرجاء بسوراليأس وأرتد في حلقي بأغوار سحيقة
وشعرت بدوار يضرب رأسي فدفنت وجهي الضائع بين ركبتي في أستسلام تام , وأغمضت عيني في أسى محاولة التغلب على الفزع الذي أعتمل في داخلي

 

ثم تمتمت في نفسي :
لماذا تفعلين هذا بي يا أمي !؟
( كم كنت أود لو مررتِ بقبلة عطف على جبيني و مسحتي علي شعري برفق )
( كم وددت ان أتلمس آثار حنان كفك على وجهي الصغير وأنطوى بين يديك مطمئنة مستسلمة لرعايتك آملة أن تقرئي لي بعض الآيات وتدثريني بتراتيل الدعاء علني أنام )

***********

غمامات من السواد تتأرجح حولي ومخيلتي لا تنفك تجسم أمامي ملامح تلك العجوزالتي تترصدنى بصوتها الذي يتدخل في زمني النفسي , يمسك بناصية إنفاسي ويحتل كل حواسي ويشتت ساعاتي ودقائقي فيزيدنى الاماً فوق آلامي
اجزع إلي السرير وأدخل للفراش , ألوذ بحزني الفوضوى الذي يغوص تحت الغطاء بين كسوروحدتي وإنيني الصامت يحاول لملمة اشلائي المتناثرة في الفراغ الشامت , وحيث لم يتبقي لي سوى دميتي المليئة برائحة السنين رحت أضمها إلي قلبي وبصوت مخنوق وبكاء في أعماقى مكتوم قلت لها :

 

_ لا تخافي كل شئ على ما يرام

وما أن وضعت رأسي على الوسادة حتي أنسل من عيني خيط من الدمع فاض على وجنتي ثم تناثر وأمتدعلى فراشي في
 كل أتجاه

 

 
 

 

 

الكاتبة جيهان حكيم

كاتبة حرة وأدبية حصلت على العديد من الجوائز في القصة القصيرة ، خريجة إعلام القاهرة , نائب رئيس مجلس إدارة مجلة المجتمع سابقا ، نائب رئيس تحرير جريدة الأمة ، رئيس القسم الثقافي بصوت مصر الحرة ،كاتبة مقال الرأى بجريدة صوت الوفد ، جريدة العالم الحر ,جريدة الوتر، جريدة نبض الشارع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى