مقالات واراء

آليات الترويض والإفساد

313

يويسف إدريس ورواية العيب
يويسف إدريس ورواية العيب

د.صلاح عبادة
رواية «العيب» هي إحدي الروايات المهمة للدكتور يوسف إدريس، وهي رواية أخلاقية بامتياز؛ لأنها تعالج داءً اجتماعيًا عضالاً هو داء الفساد، عبر مستويين، الأول يتعلق بفساد الذمة الفردية عبر تعاطي الرشوة. والآخر هو الأكثر خطورة؛ لأنه لا يكتفي بفساد الذمة الفردية، وإنما يتعداها إلي محاولة إفساد ذمم الآخرين من الشرفاء، حتي تصبح الرؤوس ـ في الفساد ـ سواء، وهو تشريح سيكولوجي عميق لشخصية الفاسد/المفسد، يقدمه الدكتور يوسف إدريس في إدانة واضحة لذلك النموذج البشري الشائه المنحرف الذميم، الذي تمثل له عملية إفساد ذمة موظف «هواية ككل الهوايات الشاذة كانت مزاولتها تُشيع في جسده العريض القصير المترهل نوعًا من اللذة الشيطانية الوحشية دونها بكثير لذة إفساد البكر، أو الكسب الضخم الحرام في البوكر والباكاراه…. ولذته الكبري كانت تبدأ تلوح إذا آنس من هذا الموظف أو ذاك مقاومة، أو وجده عنيدًا مُصرًا، أو لاح وكأنه من أصحاب المبادئ».
تقدم الرواية مجموعة من الموظفين، اعتادوا تعاطي الرشوة،و وتطرأ علي حياتهم المكتبية موظفة جديدة اسمها «سناء»، وهي شريفة، يقظة الضمير، تأبي الانخراط في منظومتهم الفاسدة، ومن ثم فهي تمثل بالنسبة إليهم الخطر الحقيقي الذي يكاد يفتك بمصادر دخلهم الحقيقية المتمثلة في الرشوة، فيشنون عليها حرب الترويض والإفساد. وكانت الآلية الأولي، والسلاح الماضي في هذه الحرب، هي النبذ والإهمال والتجاهل «وكأنها هي التي أذنبت وكأنهم ليسوا هم المخطئين. وتمضي الساعات بطيئة ساكنة تكاد تكون كالقوارب في بحر لا هواء فيه، وهي تعاني من شعور غير المرغوب فيه، الحساس للكلمة، أي كلمة حين تقال وأي كلام لا يقال…».
أما الآلية الأخطر في حرب ترويض الموظفة الشريفة وإدخالها حلف الفساد، فهي استغلال حاجتها للمال الضروري والتخلي عنها حين الأزمة، فحرمان أخيها الأصغر من دخول الامتحان نتيجة عدم دفعه للمصاريف يمثل لها ضيقًا وكربًا عظيمًا، وهنا ينسج حولها الموظفون الفاسدون الشباك لكي تسقط في فخاخهم العفنة. وهنا يقدم الدكتور يوسف إدريس مرافعته الأخلاقية الرفيعة عن وجوب التساند الاجتماعي والنجدة والشهامة حتي لا يصير الناس كلهم فاسدين. ويضع هذه المرافعة الأخلاقية علي لسان بطلته الشريفة التي يسميها «سناء» وهو اسم مشتق من النور والضياء الذي ينبغي أن يبدد عتمة الفساد الضارب بأطنابه علي الحياة الوظيفية الإدارية الفاسدة المترهلة. قالت سناء موجهة كلامها لأولئك الموظفين الفاسين المفسدين: «كلكم كنتم في يوم من الأيام بني آدمين، وبعدين لقيتم حد علمكم الكلام ده وفسدكم، وخلاص دلوقتي كل همكم إنكم تفسدوا الناس وتحللوا الفساد في نظركم، عشان يغلطوا ويتورطوا ويبقوا زيكم وما يصبحش فيه حد أحسن من حد. أنت لازم تعرف نفسك كويس. أنت صحيح لابس بدلة واسمك السيد محمد أفندي الجندي وليك مكتب ومحترم، إنما أنت زيك زي أي نشال في الشارع أو أي حرامي غسيل. سبتني عشان أتزنق، ولو كل واحد اتزنق فك زنقته بالسرقة أو بالقتل كان زمان الدنيا بقت كلها حرامية وقتالين. إنما ده ما بيحصلش لأن الناس دايمًا بتساعد المزنوق. عمرهم ما يسيبوه يقف لوحده، ولما يسيبوه عشان يدوق الزنقة يبقوا هم الغلطانين، هم المجرمين”. حقًا إن الأدب العظيم، والفن العظيم هو ـ بالضرورة ـ أخلاقيّ عظيم.

رئيس النحرير

المشرف العام على موقع العالم الحر
زر الذهاب إلى الأعلى