الاسلاميات

السيرة النبوية فى ضوء القران والسنة ج13 يقلم الشيخ موسى الهلالى

مدنية العرب وحضارتهم قبل الإسلام
يجمل بي قبل الدخول في الموضوع أن أبين معنى الحضارة «1» .
مفهوم الحضارة عند العلماء المسلمين، أو علماء الاجتماع منهم خاصة هي كما بينها الإمام العلّامة عبد الرحمن بن خالدون في مقدمته «أن الحضارة عبارة عن نمط من الحياة المستقرة، ينشىء القرى والأمصار، ويضفي على حياة أصحابه فنونا منتظمة، من العيش، والعمل، والاجتماع، والعلم، والصناعة، وإدارة شؤون الحياة، والحكم، وترتيب وسائل الراحة، وأسباب الرفاهية» «2» .
أما مفهوم الحضارة عند المحدثين فيعرفها أصحاب المعاجم «بأنها مظاهر الرقي العلمي، والفني، والأدبي، والاجتماعي في الحضر» «3» . ولا يعكّر على هذا التعريف إلا قصر تلك المظاهر على الحضر أي المدن، مع أن المكان لا دخل له في تغيير حقائق الأشياء، وطبائعها، فهل لو وجدت تلك المظاهر، أو بعضها في القرى أصبحت شيئا غير ذلك؟ ما نظنّ هذا، ومن ثمّ يكون تعريف ابن خالدون أسلم منطقا، وأشمل مفهوما، وأدق تحديدا.
ويستخلص من هذين التعريفين أن الحضارة عبارة عن إنتاج الإنسان

الاجتماعي الواعي، بحيث تتجلّى في هذا الإنتاج خصائصه الفكرية، والوجدانية، والسلوكية. وهذا المفهوم يتسع لكل ما يتصل بالروح، والفكر، والفلسفة، والأخلاق، والقانون، والفنون، فضلا عن الجانب المادي من العمران، وما ينتجه العلم التجريبي والاختراع مما يتصل بجميع مرافق الحياة كالصناعة والزراعة، والطب، والهندسة، وما إليها مما يكون عونا على تيسير العيش، ورغد الحياة.
كما يستخلص من هذا أيضا أن المجتمعات تختلف في نموها الحضاري، بمقدار ما تسهم في تحقيق عناصر الحضارة في حياتها، وبمقدار ما يسعفها وعيها، وظروفها البيئية في هذا الصدد «1» .
بناء على هذا نقول: هل كانت للعرب حضارة قبل الإسلام؟.
نعم. قد كانت لهم حضارة في اليمن، وفي ديار عاد، وفي ديار ثمود، وفي الحيرة، وفي بلاد غسان، وفي بلاد الشام، بل وفي بلاد الحجاز ذاتها: في مكة، والمدينة، والطائف.
وقد علمت ما كان في اليمن من قيام ممالك ذات سيادة وسلطان، ولها نظم وقوانين، ومجالس شورى وقضاء، إلى غير ذلك مما ذكرناه سابقا، وما وصلت إليه الممالك من حضارة زاهية وعلم وفن، فقد أقاموا السدود، والخزانات، للاستفادة بالماء، وعدم تبدده في الصحراء، وبذلك تمّ لهم تنظيم الصرف، والري، وليس من شك في أن هذا يتطلب فنا، وعلما بالأصول الهندسية، وتقدما في الفن المعماري، وناهيك بسد (مأرب) الذي يعدّ من أفخم وأضخم ما صنعه الإنسان في العصور القديمة، وفيما قصه القران الكريم عن مملكة (سبأ) وما كشف عنه علماء الاثار في الزمن الأخير ما يشهد لذلك، وقد بلغت اليمن من بسط العيش، ورخاء الحياة، وفخامة المدنية ما حمل معاصريهم من اليونانيين أن يسموا بلادهم (بلاد العرب السعيدة) .
وكذلك كان في عاد حضارة زراعية، وصناعية، وتجارية، ومعمارية،

وكذلك كان في ثمود، وبحسبهم أنهم كانوا ينحتون في الجبال بيوتا في غاية الدقة والإحكام، وكذلك قامت في (الحيرة) على تخوم بلاد الفرس مملكة ذات شأن، وقامت حضارة بلغت في الفن المعماري مبلغا عظيما، وبحسبنا القصران الشهيران: الخورنق، والسدير، اللذان لا تزال اثارهما باقية إلى الان.
وفي بلاد غسان قامت حضارة، وكان هناك عمران، وتجارة، وزراعة، وصناعة ونظم وقواعد لضبط شؤون الملك.
وفي دولة الأنباط قامت مملكة، وكانت حضارة، وفي دولة تدمر قامت مملكة، وكانت حضارة أصيلة، ولا تزال اثار المعابد والقصور في هاتين الدولتين باقية إلى يومنا، شاهدة على ما بلغ القوم من حضارة.

دولة حمورابي
وإذا صح ما ذكره المؤرخون أن دولة حمورابي في بابل كانت عربية، وأن أصلها هم العماليق الذين نزحوا من بلاد العرب إلى بلاد العراق، ثم كونوا لهم مملكة (ببابل) في القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد- تكون هذه الدولة من أقوى الشواهد على حضارة العرب، فقد كانت هذه الدولة لا تقل في الحضارة والمدنية عن أرقى أمم الأرض حضارة في زمانها.
وقد ثبت أن العرب العماليق ملكوا مصر في القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد، وأنهم أسسوا بها أسرة مالكة، فلم يكونوا أقل من الأسر المصرية في شيء «1» .
وكذلك نشأت في بلاد الحجاز حضارة في مكة، والمدينة، والطائف، ونحوها من المدن المشهورة، فكان هناك بناء وعمارة، وكانت هناك تجارة، وتجار مهرة يصيرون من رمال الصحراء ذهبا، وكانت هناك زراعة وبساتين، في المدينة، وفي الطائف، واليمامة، وهجر.
وكان بمكة مجلس للشورى يرجعون إليه في الأمور المهمة، ودار لهذا،

وهي (دار الندوة) فكانوا يجتمعون فيها كلما أهمهم أمر، ويجتمعون فيها اجتماعا عاما كل عام، وكانت تدار فيها المناقشات بكل حرية، وهي تدل على نضجهم التفكيري، ومن يقرأ الحوار الذي دار بينهم في الائتمار بالنبي صلّى الله عليه وسلّم قبيل الهجرة يعلم ما وصل إليه العرب في باب الشورى «1» .
وإذا كان الجانب الأخلاقي من العناصر المهمة في تكوين الحضارة فقد كان للعرب- حضرا وبدوا- من ذلك رصيد ضخم من كرم، وشجاعة، وحماية للذمار، ومروءة، ونجدة، ورعاية للجار، ووفاء بالعهد، وإباء للضيم والذل، إلى غير ذلك مما لم نذكره، وإن حضارة الأخلاق الكريمة، والصفات النفسية الأصيلة لأهم- عندي- من حضارة البناء، والصناعة، والزراعة، إذ عليها تقوم الأمم التي تستحق البقاء والخلود، وماذا تجدي الحضارة المادية إذا كانت النفوس خالية من المعاني النفسية، والأخلاق الكريمة؟!
لقد كان للعرب خصائص فطرية، وعقلية، ونفسية، وخلقية هي التي أهلتهم لأن يكون منهم سيد البشر وقمة العرب سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وأن يكونوا حملة هذه الرسالة العامة الخالدة للناس أجمعين، وصدق الله في قوله:
اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ (124) «2» .
ومهما يكن من شيء فقد كان للعرب في جاهليتهم ممالك وحضارات ساهمت إلى حد كبير في بناء الحضارة الإنسانية، فلا تعجب- أيها القارىء الكريم- إذا كانوا لما اعتنقوا الإسلام عن يقين واقتناع صنعوا الأعاجيب في باب الحضارة، وبلغوا فيها شأوا لم تبلغه أمة من الأمم، ولا تزال اثار هذه الحضارة الإسلامية باقية إلى يومنا هذا. لقد كانت هذه الحضارة من أقوى الأسس التي قامت عليها الحضارة الأوروبية في العصر الحديث، كما شهد بذلك المنصفون من أبناء هذه البلاد.
الهوامش
(1) الحضارة لغة الإقامة الثابتة المستقرة في المدن والقرى، ويقابلها البداوة. وصلة المعنى اللغوي بالمعنى الاصطلاحي الاتي بيانه ظاهرة، لأن الإقامة الثابتة في المدن أو القرى تستلزم النشاط العقلي والوجداني والسلوكي الذي ينتج الحضارة.
(2) مقدمة ابن خالدون.
(3) المعجم الوسيط.
(1) من محاضرة في أسبوع القران بجامعة أم درمان الإسلامية للدكتور فتحي الدريني.
(1) دائرة معارف القرن العشرين، ج 6 مادة: عرب.
(1) إنما أردت الاستدلال على نضجهم الفكري وطريقتهم في عرض الاراء وقبولها أو رفضها فحسب، أما الائتمار وما انتهوا إليه من عزم على قتل الرسول فهو ولا ريب جريمة، وأمر منكر.
(2) الاية 124 من سورة الأنعام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى